كركدنّ أم ثور حطّم عظام واشنطن؟!
نصر شمالي
ولّى عصر الهيمنة الأميركية إلى غير رجعة، والزلزال الذي ضرب أسواق المال الأميركية هو إعلان عن نهاية الإمبراطورية الأميركية، والولايات المتحدة تترنّح تحت وطأة الأزمة المالية العالمية في مشهد يذكّر بما كان عليه الاتحاد السوفييتي عشية انهياره! هذا بعض ما قاله "الفيلسوف" البريطاني جون غراي قبل أيام في صحيفة "الأوبزيرفر" البريطانية، أمّا عن الأسباب فقد شرح أنّ مصير الإمبراطوريات يرتبط غالباً بالتفاعل بين عاملي الحروب والديون، حيث الإمبراطورية البريطانية تدهورت أوضاعها المالية بعد الحرب العالمية الأولى واستمرّت في التدهور، ورغم إصرار الولايات المتحدة على أنّها استثناء، فإنّها في الواقع لا تختلف كثيراً عمّن سبقها، إذ أنّ حرب العراق وفقاعة الرهن العقاري قوّضتا بشكل قاتل زعامة واشنطن الاقتصادية!
ولكن ماذا عن الطرف الإنساني المقابل في المشهد الدولي الذي عرضه هذا "الفيلسوف" الإنكليزي العنصري؟ ماذا عن دور نضال شعوب المستعمرات وتضحياتها الجسيمة في تدهور الإمبراطورية البريطانية؟ ألا يستحق نضال غاندي ونهرو وشعب الهند، مثلاً ، أية إشارة؟ ألا يستحق نضال الطبقات العاملة الأوروبية ونهوض الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية أية إشارة؟ ألم يكن ذلك من الأسباب الرئيسية لانهيار الإمبراطورية البريطانية بالأمس؟
واليوم، ماذا عن دور مقاومة الشعب العراقي في "ترنّح" هذه الإمبراطورية العالمية الباغية وبلوغها بداية مرحلة النهاية؟ إنّ الفيلسوف الإنكليزي العنصري وأمثاله لا يشيرون إلى الطرف العراقي الإنسان في بلورة نتائج هذه الحرب الهائلة المفتوحة ضدّ الأمم جميعها! إنهم يشيرون إلى العراق كما لو أنّه غابة وحشية، قصدتها واشنطن للقيام برحلة صيد ترفيهية، فتعرّضت فيها لطعنة خطيرة من كركدنّ هائم على وجهه! أو كأنّما واشنطن ذهبت إلى العراق لممارسة هوايتها الرياضية في امتطاء الثيران، فرماها ثور جامح عن ظهره وتحطّمت بعض أضلاعها!
إنّ غراي يتجاهل تماماً مقاومة شعب العراق ودورها الحاسم في تفاقم أزمة النظام العالمي الربوي الاحتكاري وفي دفع هذا النظام إلى حافة الانهيار! إنه يتحدّث عن العراق في وضعه الراهن فيقول أنّ هدوءاً نسبياً تحقّق في بعض أجزائه (عبر تقديم الرشوة للعراقيين السنّة!) أي أنّ "الثور الجامح" بدأ يهدأ بفضل الرشوة! لكنّ الفيلسوف العنصري يتساءل مناقضاً نفسه: " إلى متى سيستمرّ ذلك في ضوء الإنفاق الأميركي الحالي على الحرب التي لا يمكن أن تستمر؟"! كما يبدي مخاوفه من أنّ أيّ انسحاب أميركي من العراق سوف يعني انتصار إيران! هل يقصد امتطاء إيران ظهر الثور العراقي بنجاح وربح المباراة ضدّ الولايات المتحدة؟! عجباً لجبروت الإنكليز الذي لا حدّ له ولسخفهم الذي لا حدّ له أيضاً! إنّ الفيلسوف الإنكليزي يتخلّى عن وقاره "العلمي" تماماً في سبيل تجنّب ذكر الشعب العراقي العظيم وبطولاته التي زعزعت أركان الإمبراطورية الأميركية! وهو لا يأبه لتناقضه عندما يجعل إيران أهلاً لوراثة الأميركيين في العراق، فكأنّ ما عجز عنه حلف شمال الأطلسي تستطيعه إيران! وكأنّ إيران، المستعمرة السابقة المنكوبة التي تحاول النهوض من كبوتها الطويلة، هي من شاكلة الدول الأطلسية الاستعمارية! وعلى أية حال، فإنّ أمة صمدت هذا الصمود الأسطوري في فلسطين، وألحقت الهزيمة والعار بقوات حلف شمال الأطلسي في العراق ولبنان، لا يمكن أن تخضعها أية قوات أخرى إقليمية أو دولية، ولا شكّ أن كلّ عاقل يعي ذلك بداهة.
غير أنّ العالم الإنكليزي العنصري، الذي أجاد توصيف مظاهر الأزمة المالية الرأسمالية، تمادى في سخافاته العنصرية وهو يعرض لأسبابها، وذلك نتيجة إصراره الذي لا يتزعزع على إنكار وجود الشعب العراقي والأمة العربية، فقد راح يتحدّث ويا للعجب عن خرافة "هرمجدون" وعن موقعة اقتصادية بين أهل الخير وأهل الشر يفترض أن لا تنتهي باندحار الرأسمالية الطيبة أمام الأشرار! إنّ هرمجدون هي بلدة "مجدو" العربية الفلسطينية التي تزعم الخرافات الصهيونية غير اليهودية واليهودية أنها ستشهد معركة تؤدي إلى دمار العالم وإلى ظهور المسيح وبداية ألف عام سعيدة! لقد كان الرئيس الأميركي ريغان يعتقد أنّ هذه الموقعة الخرافية يمكن أن تحدث في عهده، في عقد الثمانينات من القرن الماضي!
لكنّ موقعة "هرمجدون" الخرافية، إذا جارينا غراي وأمثاله من الصهاينة في سخافاتهم العنصرية، وقعت وانتهى الأمر، في العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان والصومال، وقد هزم الأشرار المرابون المقامرون المغامرون في هذه البلدان حقاً، وبدأت تظهر في الآفاق الدولية معالم عصر جديد، ونظام عالمي جديد يفترض أن يكون نظيفاً من العنصرية والاحتكار والعدوان، أمّا مظاهر هزيمة الأشرار فقد لخّص غراي بعضها في مقالته، وإن هو أصرّ على نفي وجود أمتنا بتجنّب تسميتها باسمها وذكر دورها، وأصرّ على أنّ ما أصاب الولايات المتحدة في العراق هو مجرّد طعنة كركدنّ أو جموح ثور!
يعتقد غراي أنّ الاقتصاد الأميركي الضعيف لن يستطيع بعد الآن دعم الالتزامات العسكرية الأميركية الممتدّة على نطاق عالمي واسع، وأنّ خفض النفقات الحربية محتوم، لن يتمّ بالتدريج ولا بتخطيط حسن، فالانهيارات العالمية التي نشهدها ليست بطيئة الإيقاع، بل هي غليان فوضوي سريع تنتشر آثاره سريعاً، وتتسبب في تداعيات جيوسياسية كبيرة! ويعتقد غراي أنّ الحكومة الأميركية ستعمد إلى الاقتراض من الخارج، وأنّ مقرضيها سيشعرون، وهم على حق، أنهم لن يستردّوا أموالهم، أمّا الدول الأكثر قدرة على شراء سندات الخزانة الأميركية فهي الصين وروسيا ودول الخليج! (الدبّ والتنين والثور أو الكركدنّ حسب التصنيفات العنصرية!) إنّ غراي وأمثاله يصرّون عل عدم ذكر العرب بالاسم، فهم هنا "دول الخليج" لا أكثر، التي سوف تستولي واشنطن على ما تحتويه صناديقها السيادية من نقود دون أن تشعر بأي امتنان تجاهها! وهل يعقل أن تكون ممتنّة للثيران والكركدنّات؟ مع أنّ غراي يضيف أنّ هذه الجهات المقرضة لن تكون مستعدّة لدعم استمرار الدولار كعملة احتياطية عالمية، وأنّها ستعمل على تعديل ميزان القوة الاقتصادية في العالم ليصبح ملائماً أكثر لمصالحها، وفي جميع الأحوال وأيّاً كانت اختيارات المقرضين، يقول غراي، فإنّ التحكّم بالأحداث الدولية وضبط إيقاعها لم يعد بعد الآن في يد واشنطن!