مرت شهور منذ كتبت آخر خواطري، حيث كنا جميعا في الضباب
والموقف حافل – ولا زال حافلا – بالمتناقضات، لا نستطيع التفسير الواضح لما حدث
منذ اندلاع الثورة في 25 يناير 2011 حتى يومنا هذا. لن أخفي أنني – مثل الكثيرين
من المحللين - ما زلت عاجزا عن الإمساك بكل خيوط الحقيقة، ولكن ما اتضح من حقائق
يكفي لرسم صورة غير مكتملة، أعتقد أنها سوف تتضح بالكامل – بإذن الله – خلال عام
2014. وسوف يحللها ويفسرها من هو أقدر مني على ذلك، ممن سوف تتوفر لهم المعلومات
الكاملة. فلنستعرض معا ما توفر من الحقائق حتى الآن. كيف قامت ثورة يناير 2011؟
بدأت الثورة في صورة دعوة على موقع التواصل الاجتماعي
"الفيسبوك"، وهو بالمناسبة أكبر موقع تجسس للمخابرات المركزية الأمريكية،
حيث يتطوع الناس بطرح أفكارهم وتحركاتهم وكافة المعلومات عن كل اٌرائهم وأصدقائهم.
وإذا ما قمت بإلغاء حسابك على ذلك الموقع اللعين فإن كل ما كتبته قبل الإلغاء يظل
تحت تصرف الوكالة. يفوق "الفيسبوك" وغيره في فعاليتهم كافة تسجيلات
أجهزة التصنت التليفونية التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة.
قبل أن يقوم الرعيل الأول من شباب الثورة بدعوتهم -
بقيادة الأب الروحي محمد مصطفى البرادعي – كان تدريبهم قد تم في المطبخ الأمريكي
المجهز لإعداد شباب ثورات "الربيع العربي". وإن شئت الدقة فإن التسمية
اللائقة هي "الربيع العبري". لأن الهدف الأمريكي الصهيوني من تلك
الثورات هو تفتيت الدول وتعميق التناحر بين مكونات الشعوب المتنوعة دينيا أو
سياسيا، وخاصة بين شعوب العالم القديم التي تزداد بين مكوناتها حدة التدين - أو ما
يعتقد البعض أنه تدينا - وتزداد بها حدة الاختلافات العرقية والاستقطاب الديني
وغير ذلك من العوامل التي تقوم بالتغلب على عوامل المواطنة والتقارب اللغوي وتشابه
العادات والتقاليد المتوارثة وكل ما أسهم في استمرار العيش في سلام أو وئام لمئات
السنين لكل أطياف تلك الشعوب القديمة.
حينما قام ذلك الرعيل بالدعوة إلى مظاهرة سلمية، لم يخطر
ببالهم - أو ببال أحد – أن القهر والفقر الذي سببه حكم اللص الجهول محمد حسني
مبارك قد ثبت في أذهان الناس ضرورة القيام بثورة. ساعد على سرعة انتشار الفكرة
عاملين متضادين: العامل الأول هو سرعة وسهولة وسائل الاتصال الحديثة، والعامل
الثاني هو بطء تحرك قيادات الوسائل القمعية للحكم الدكتاتوري العفن، التي فوجئت
بما هو فوق طاقتها. سرعان ما تجمعت الملايين في ثورة سلمية عارمة أذهلت الجميع،
وأصبح ميدان التحرير رمزا لتلك الثورة العظيمة التي حققت الجزء الأول من المخطط
الأمريكي، لمجرد أن هذا الجزء تطابق مع الرغبة الشعبية في التخلص من مبارك وعصابته.
كانت القوى الثورية الفاعلة في تلك الفترة هي الشباب
المدرب أمريكيا، وشباب الإخوان المسلمين الذي ضللته قيادته فيما بعد، وبقية أبناء
الشعب المصري ممن لا يحملون توصيفا محددا سوي مصريتهم وضيقهم من النظام القمعي
الدكتاتوري الذي قام دوما بتزييف إرادتهم وتسبب في إفقارهم وتخلف دولتهم. أما
القوى المنظمة الأخرى فكانت مؤسسات وزارة الداخلية والجيش المصري والحرس الجمهوري،
وكانت كافة قياداتها تدين بالولاء للدكتاتور الضال محمد حسني مبارك.
هنا اختلط الحابل بالنابل وتوفرت كل مكونات "الفوضى
الخلاقة" التي بشر بها المنظرون الأمريكيون. هنا سقط القتلى والجرحى من
الأبرياء وغير الأبرياء ولا علم لي بمن كان يقتل من، ولا يستطيع أحد – في يومنا
هذا – أن يقول لنا بأمانة تامة من كان يقتل من. مصر كانت ملعبا مفتوحا لكافة
الأطياف بما في ذلك قوى المخابرات الأجنبية المتنوعة.
تولى المجلس العسكري الأول الحكم في 2011. كان ذلك المجلس
العسكري "نقاوة" تم فرزها بمعرفة مبارك وعصابته، فكان معظمهم ممن يدينون
بالولاء لمبارك ويسعون لحمايته ولا يخجلون من ترديد الأكذوبة التي تصفه بأنه
"صاحب الضربة الجوية الأولى في 1973 " بينما يبدو أنه كان السبب وراء
النهاية المؤسفة لتلك الحرب بسبب مخالفته لأوامر غرفة العمليات بضرب الطيران
المصري لعشرة آلاف جندي إسرائيلي وبضعة مئات من الصيادين المصريين بالبحيرات المرة،
إذ أنه بدلا من أن يفعل ذلك تخطى الأمر واتصل بالسادات الذي أمره ألا يفعل. وقد يطلعنا
التاريخ فيما بعد على حقيقة ما حدث بالضبط، فربما كان هناك اتفاق بين السادات
والأمريكان على القيام بحرب محدودة.
استمر ذلك المجلس العسكري بقيادة طنطاوي في الضلال
والتضليل إلى أن تم اختراع نظام غريب لانتخابات الرئاسة وضع المصريين في النهاية
في موقف يفاضلون فيه بين كلب وحمار. كان الكلب الهارب الآن بالإمارات وكيلا وامتدادا
لحكم اللص الجشع الخائن محمد حسني مبارك وابنه الذي أرادوا له أن يرث ملك مصر. وكان
الحمار رئيسا لجماعة الإخوان الإرهابية التي لم يكن المصريون على علم بأنها فرع من
تنظيم دولي يسعى لإنشاء "الخلافة" الإسلامية الوهمية لصالح الصهيونية
الأمريكية، بل إن معظم شباب تلك الجماعة لا يعلمون بتلك الأهداف ولا يربطهم
بالجماعة سوى التعصب الديني الأعمى الذي رسخته النظم التعليمية الفاسدة التي أتلفت
عقول الشباب الغض على مدى 60 عاما من الحكم الدكتاتوري.
أشرف على انتخابات الرئاسة خبير التزوير فاروق سلطان، وقام
الكثيرون باختيار مرسي العياط رفضا لشفيق وليس رغبة في العياط. وسواء كانت
انتخابات الرئاسة نزيهة أو مزيفة فقد أصبح ذلك الأبله الجهول رئيسا لمصر ليجعل منا
أضحوكة المحافل الدولية. ومن غرائب العدل الإلهي أن ذلك الأبله قد تخلص من طنطاوي
ودفع بالسيسي إلى قيادة الجيش ظنا منه أنه قد اشتراه بمنحه ترقية استثنائية. تختلف
الآراء هنا فهناك من يقول بأن تنحية طنطاوي ومجيء السيسي كان طبخة تمت بالتوافق
بين الإخوان وبقايا نظام مبارك، لكن المؤكد أن السيسي لا يدين بالولاء لمرسي كما
أنه من المشكوك في أمره أن يكون مدينا بالولاء لمبارك.
وقصة مبارك لها أكثر من تفسير، فهو يقبع معززا مكرما في
منتجع طرة وسط أبنائه ورجاله القدامى، ولم يشأ أحد محاسبته محاسبة حقيقية بمعرفة
محكمة علنية محترمة لا تشبه الكوميديا السخيفة التي رأيناها على شاشات التلفاز. يقول
البعض أن ذلك يعود لحماية مفروضة من عاهر الحرمين مقابل المعونة السعودية لمصر
ويقول البعض الآخر أن تقاليد الجيش المصري لا تسمح بإهانة قياداته القديمة، ولا
ندري على وجه التحديد من الذي قتل عمر سليمان، وإن كان المرجح في ظل ما تكشف من
حقائق عن التنظيم الإرهابي أن الرجل ربما قد تم شحن جثته إلى لندن لكي تلقى من
إحدى الشرفات على طريقة سعاد حسني. كما أننا لا ندري لماذا تم إخلاء سبيل زوجة
مبارك التي كانت غارقة في الفساد حتى أذنيها ولديها من المخالفات ما يكفي لوضعها
خلف القضبان بقية عمرها وتجريدها من كل ما نهبته. يقال أنها دفعت جزءا من ثروتها
مقابل هربها.
المؤكد هو أن أمريكا الصهيونية تعمل بكل طاقتها لتكريس
"الفوضى الخلاقة" بدول "الربيع العبري" بمحاولة تدمير الدولة
المصرية كما فعلت بالعراق وليبيا وتحاول فعله في سوريا. لكن المشروع الصهيوني
الأمريكي قد تعطل بفعل المكابح (الفرامل) السورية وسوف يتم دفنه في أرض الفراعنة،
فقد أصبح واضحا بعد أن كان عسيرا على الفهم.
قام الشعب المصري بإطلاق لقب "الخرفان" على
شباب الإخوان وهم في حقيقة الأمر مجرد حملان ضالة. فالحمل الوديع يسهل قياده، خاصة
وأن "الأفيون الديني" له فعل السحر ويكاد يودي بما تبقى من عقل لكل أهل
منطقة الشرق الأوسط بأسرها، في عصر الفضائيات التلفازية. فلو أنك قلبت مفتاح
التلفاز بين الفضائيات الناطقة بالعربية فلن تجد في معظمها سوى شيوخ الفضائيات
الملتحين وعلى رؤوسهم طرح النساء البيضاء، يحدثونك في وقار مصطنع عن الويل والثبور
وعظائم الأمور التي تنتظرك بالدار الآخرة، وكيف أن طاعة ولي الأمر من طاعة الله.
أعود إلى أصل الموضوع وهو تقييم ما يحدث الآن. على شباب
الإخوان الاستيقاظ من غفوتهم وفهم كبوتهم. هناك شيء اسمه الوطن والمواطنة. أما المواطنة
فهي حق الجميع من أقباط ومسلمين في العيش والتكافل فيما بينهم، فالأقباط ليسوا
كفارا كما يشيع المرتزقة من شيوخ الإعلام،
بل هم مواطنون مسالمون يدفعهم "التطرف الإسلامي" نحو "التطرف
القبطي" وكلاهما غريب عن مصر التي ولدت بها وعرفتها حتى الستينيات. عليهم أن
يتعلموا كيف أن ملابس العصور الوسطى لا تصلح لنا في القرن الحادي والعشرين. على
رجال الشباب أن يتعلموا من أمثال الشيخ محمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر، وعلى
نساء الشباب دراسة تاريخ قاسم أمين في تلك الفترة ودرية شفيق في منتصف القرن
العشرين ودورهما في تحرير المرأة المصرية من أغلال القرون الوسطى.
على أهل مصر جميعا أن يعلموا أن قوى الصهيونية الأمريكية
تصدر وسائل العنف إلى مصر بهدف هدم مؤسسات الدولة. وعلى الدولة المصرية تطبيق
قانون التظاهر ومواجهة المخالفين بالذخيرة الحية لأنهم - دروا أو لم يدروا – هم الوسيلة
الصهيونية الأمريكية لتنفيذ مخطط تدمير مصر. الهدوء مطلب أساسي لكي نسير بسرعة على
طريق الإصلاح، بعد 60 عاما من الفساد المتجذر.
كلمتي الأخيرة موجهة إلى عبد الفتاح السيسي وهي "
إياك والرئاسة" فهي فخ ينصبه لك الأعداء ويشيعونه بوسائل إعلامهم. أنت أقدر
على خدمة وطنك من موقعك كقائد للجيش. دع الرئاسة لمدني فالحاكم ذو الخلفية
العسكرية لا يصلح لحكم مصر. وطنك يريدك عينا على هذا الحاكم وقائدا يحمي البلاد - في
هذه المرحلة المصيرية - من الداخل قبل الخارج. أقول قولي هذا وأدعو لك بالتوفيق
فأنت ابن مصر البار وموقعك في القلوب، طالما بقيت في موقعك الحالي حارسا أمينا
للوطن. إياك وحب السلطة فقد غررت بالكثيرين من قبلك وأهلكتهم.