بقلم: ثائر دوري
يمتد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج و يتألف من جمهوريات ، و ممالك ، و إمارات ، و أجزاء واقعة تحت الاحتلال . في هذا الوطن الكبير المحتل ، التابع ، المجزأ تتشابه الأحوال و تتكرر الأحداث و تتناسخ المواقف و الشخصيات . ألسنا أمة واحدة !
فعندما يتحدث السيد الترابي" الإسلامي" عن" الشرعية الدولية" التي يجب أن يمتثل لها الرئيس البشير بمناسبة المحكمة الجنائية الدولية تهمس لنفسك أنك قد سبق و سمعت مثل هذا الكلام في سوريا بمناسبة أخرى و من معارض شيوعي مثلاًً، ثم تتذكر أن معارضاً طائفياً في العراق قد قال كلاماً شبيهاً عن" الشرعية الدولية" و حتمية امتثال النظام لها . و هكذا دواليك و كأننا في احتفال أقنعة يتغير القناع لكن ما وراء القناع ثابت و بالتالي فالخطاب ثابت لكن القناع يتغير . و عندما يحتقر السيد الترابي الجماهير التي تضامنت مع الرئيس البشير و لامته على تأييده لمذكرة الاعتقال فيصفهم بالمغفلين لا نستغرب هذا الخطاب ،خطاب احتقار الجماهير ووصفها بالجهل حيناً و بالغباء أحياناً ،و إدعاء أننا نفقه ما لايفقهون ، فقد سبق و سمعناه و عانينا منه من قبل و في أماكن أخرى من الوطن العربي الفسيح و من نخب يسارية تارة ، و قومية تارة أخرى ، و ليبرالية تارة ثالثة ، و الآن جاء دور الترابي الإسلامي ليلتحق به .
كما أن تفسير الترابي لاهتمام الغرب بأزمة دارفور "الغربيون لديهم مبادئ حتى لو لم يحبوك..عندما يتم انتهاك الحريات فإنهم يثورون. هذه بلاد ديمقراطية.. هل تعرف لماذا تحركوا في موضوع دارفور؟ تحركوا لأنهم شاهدوا مناظر مؤلمة في دارفور" . هذا التفسير الترابي لم يبدعه الترابي ،فهو خطاب قديم مستهلك لمعارضين شيوعيين سابقين ، أو قوميين ، أو ليبراليين ، أو طائفيين في سوريا و لبنان و فلسطين و العراق . فهؤلاء اكتشفوا مع صعود المحافظين الجدد لا سيما بعد أحداث 11 ايلول أن الغرب قد قرر التوقف عن دعم الأنظمة الدكتاتورية ، و أن شمس الحرية و حقوق الإنسان قد سطعت على البشرية انطلاقاً من الغرب ( تصوروا شمساً تشرق من الغرب !) لذلك فإن الغرب قرر تحريك جيوشه و دباباته و مدافعه لنشر الديمقراطية و الحرية بالبارود ، و يتوجب علينا أن نلاقيه ببرنامجنا في منتصف الطريق كما عبّر أحدهم في سوريا!
وبالطبع فإن تبنى مثل هذا الخطاب يعد فضيحة خاصة في هذا الوقت المتأخر بعد أن تكشف كل شيء ، فقد تعرى الغرب أخلاقياً و إنسانياً و سياسياً في العراق و لبنان و أخيراً في غزة ، و كي يداري السيد الترابي فضيحته و كي يحافظ على توازن و لو شكلي لخطابه المتهافت سيحاول إيجاد أعذار للغرب ، فالغرب يتحرك من أجل إبادة مفترضة في دارفور دون أن يفعل ذلك من أجل إبادة حقيقية في غزة " إبادة معلنة " موثقة بالصوت و الصورة ، و لا يتحرك لمعاقبة مجرمي الحرب في العراق و أفغانستان و لبنان لذلك يجب أن نجد له عذراً .
يبحث الترابي عن تفسير ، أي تفسير كي يسند خطابه المتهالك ، فيفسر هذا التناقض " لأن هناك لوبي يهوديا قويا، والغرب لديه عقدة من الشيء الذي حصل لليهود في المانيا، الغرب لا يتحمل ان يرى أي شيء يحدث لليهود بعد الفضيحة الانسانية التي تعرضوا لها على يده.. اليهود مهما عملوا، الغرب ما بتكلم معاهم بقولوا كفاية ما عملناه فيهم.. هذه الحادثة تركت لدى الغرب عقدة كبيرة.." و إذا كان و هم سيطرة اللوبي اليهودي و عقدة الغرب قد أسندا الترابي ظاهرياً في قضية غزة ، فبماذا سيفسر سكوت الغرب عن جرائم بوش و عصابته في العراق و أفغانستان و لبنان ؟
إن حديث الترابي المنشور في القدس العربي يوم 18-3 -09 بعد ما جرى في المشرق العربي منذ عام 2003 و حتى اليوم من العراق و كوارثه المليونية ( مليون قتيل و نيف ، و ملايين المهجرين ) ، ثم لبنان و تدميره على يد الصهاينة فرقة الصدم الغربية ، و أخيراً في غزة ، التي لم يعد بعدها في المشرق من يجرؤ على البوح بالأفكار التي تفوه بها الترابي رغم أن الكثيرين ما زالوا يحملونها في قرارة أنفسهم . إن هذا الحديث يشكل فضيحة حقيقية و بكل المقاييس السياسية و الأخلاقية .
قد يكون الرئيس البشير مستحقاً للمحاكمة و قد لا يكون كذلك ، لكن الأمر المؤكد أن الغرب و مؤسساته القضائية التي يسبغ عليها صفة الكونية و يعطيها اختصاصات عالمية ليسا بمؤهلين لإبداء الرأي حول الرئيس البشير إدانة أو تبرئة . سأدع كل ذلك جانباً و سأبدي ملاحظتين حول هذا الحديث . الملاحظة الأولى أنه يدل على سوء تقدير رهيب للأمور من طرف الترابي فهو ما زال ينتظر العاصفة الأمريكية لتنفخ الهواء في أشرعته فتبحر مراكبه نحو السلطة تماماً كما فعل أقران له في بغداد ، و كما حلموا في بيروت و دمشق و رام الله ، دون أن يدرك أن الإعصار الأمريكي الذي ضرب بلاد الرافدين قد أضاع قوته هناك ، فتحول إلى عاصفة استوائية في لبنان ، ثم تخامد تدريجياً ليتحول إلى مجرد رياح عالية السرعة في غزة ، و بالتأكيد لم يتبق له من القوة ما يكفي لجعل مراكب الترابي تبحر نحو السلطة في الخرطوم ، و هذا من حسن حظ الشعب السوداني لأن النيل كان سيصطبغ بالأحمر فيما لو أن العاصفة الأمريكية وصلته تماماً كما اصطبغ دجلة .
والملاحظة الثانية و هي أن هذا الحديث يؤكد و يكمل ملاحظة أشار لها الأستاذ نصر شمالي في مقاله "البلاد العربية آخر معاقل الريغانية!" المنشور في نفس يوم حديث الترابي 18 – 3 ، و في نفس الصحيفة " القدس العربي " ، فقد أشار الأستاذ نصر شمالي إلى مفارقة تتمثل " أنّ البلاد العربية هي اليوم المعقل الأخير في العالم للريغانية والتاتشرية، وللبوشية ومحافظيها الجدد كآخر عهد من عهود الريغانية؟ `" و فسر ذلك اعتماداً على كلام قاله هيكل قبل ربع قرن حول جنون بعض هؤلاء الحكام . لكن الأستاذ نصر شمالي قصر حديثه على النظام الرسمي الحاكم و لم يشر إلى أن هناك معقل آخر للريغانية – التاتشرية في البلاد العربية يقع في صفوف بعض المعارضات العربية . و لا أدري إن كان الجنون يصلح لتفسير هذا الأمر أيضاً !