للدرجات العلمية
مفهوم غريب لدينا نحن العرب. وأغرب المفاهيم هو ذلك المفهوم المرتبط بدرجة
الدكتوراه . يعتقد الناس أن تلك الدرجة العلمية هي قمة ما يصل إليه الإنسان من العلم
في فرع ما من فروع المعرفة، وربما في كل المعرفة، وأنها تؤهل حاملها لأي شيء ولكل
شيء. هذا المفهوم الغريب يحتاج إلى الكثير من التصحيح.
إن أهم الدرجات
العلمية على الإطلاق هو ما يسمي بالدرجة العلمية الأولى first degree، وهي درجة
البكالوريوس أو الليسانس bachelor degree، وهي الدرجة التي تؤهل حاملها للبحث العلمي بصفة عامة، وفي مجالات
تخصصها بصفة خاصة، وهي أيضا الدرجة العلمية التي لا يلزم سواها لطرق الحياة
العملية في مجال ما خارج حدود أسوار الجامعات، حيث يفترض أن تلك الدرجة قد أرست في
حاملها الكثير من العلم بما تم الوصول إليه في فرع ما من فروع المعرفة إلى جانب
معرفته بالأصول الصحيحة للبحث والقدرة على التخطيط لحل مشكلة ما والبحث بين الكتب
والمراجع المتخصصة، والخروج من كل ذلك بحل للمشكلة أو برنامج متكامل لاستمرار
البحث في حلها.
أما الدرجة العلمية
الثانية وهي درجة الماجستير master's degree فهي الدرجة العلمية التي تعني أن حاملها قد بحث باستفاضة نقطة ما
من نقاط علم معين وتقدم ببحث مكتوب thesis لمناقشته وأنه جاهز لممارسة المزيد من البحث العلمي المتخصص. قد
يسبق البحث دراسة نظرية، وقد يكون برنامج الدرجة بكامله دراسة تخصصية دون بحث.
وأما الدرجة العلمية
الثالثة وهي درجة الدكتوراه doctorate فهي تشبه الدرجة الثانية وغالبا ما تعني أن حاملها قد بحث بحثا
مستفيضا في نقطة ضيقة جدا من نقاط علم ما وأن بإمكانه الإشراف على أبحاث الآخرين
وتقييمها، وهو أصلح ما يكون للاستمرار في بحث مجاله الضيق والاستفادة من أبحاث
الآخرين في مجال التدريس لطلبة الجامعات.
لا تعني الدرجتين
الثانية أو الثالثة الكثير من الناحية العملية ولا تعني تلك الدرجتان أن حاملها قد
تفوق بصفة عامة على حامل الدرجة العلمية الأولى. وقد يكون العكس هو الصحيح إذا ما
كان حامل الدرجة الأولى قد تمرس عمليا وأجرى من الأعمال والأبحاث أضعاف ما عمله
حامل الدرجتين الثانية والثالثة ولكن على الطبيعة وخارج أسوار المعاهد العلمية
التي حصل منها على أهم مؤهل علمي يؤهله للبحث وهو الدرجة العلمية الأولى.
حامل الدكتوراه في
الدول المتقدمة لا يصلح لتدريس مادته بالمدارس الابتدائية أو الثانوية ولا يقبل
للعمل بها بدون أن يدرس العلوم التربوية الخاصة بالتدريس للصغار والحصول على شهادة
تفيد ذلك. أي أن درجة الدكتوراه لا تفتح له الباب على مصراعيه كما هو الحال لدينا
بالدول العربية. وعلى عكس الشائع في بلادنا فإن المدرس الثانوي ليس أعلى شأنا من
المدرس الابتدائي والفرق بينهما يعود إلى اختلاف نوع الدراسة التربوية التي تلقاها
كل منهما لتتناسب وأعمار تلامذته.
تنحصر أهمية الدرجتين
الثانية والثالثة بالدول المتقدمة داخل أسوار المعاهد العلمية وفي مجال البحث
العلمي ضيق التخصص والإشراف على البرامج داخل أسوار الجامعات ومراكز البحث. أما
خارج تلك الأسوار فإن تلك الدرجات لا تعني الكثير، ولا تدل على أن صاحبها أصلح
لعمل ما من حامل الدرجة الأولى الذي تمرس في عمله.
ولكي يكون كلامي
واضحا فإن الوزراء على سبيل المثال لا يكونون عادة من حملة الدرجات العلمية
الثالثة في الدول المتقدمة، بينما تجد ذلك شائعا في الدول المتخلفة التي تسيء فهم
التقييم الحقيقي لتلك الدرجات العلمية، بل إن تلك الدرجات ضيقة التخصص قد تعني أن
صاحبها قد تركزت معرفته في مجال تخصصه الضيق، وربما كان محروما من القدرة على
النظرة الشاملة وربط الكثير من الأمور المتشعبة اللازمة لإدارة وزارة على سبيل
المثال والتي تحتاج إلى التمرس والممارسة العملية في مجالات متعددة. ولا يحتاج
بناء كل ذلك إلا إلى الدرجة العلمية الأولى ... ذلك الأساس الراسخ الذي يضع الدارس
على أول الطريق ويترك الباقي لجهده وذكائه ومثابرته ومهارته وكلها عوامل تختلف من
فرد لآخر وتنميها الممارسة العملية والجهد الشخصي.*
وتجد على سبيل المثال
أن مدير المستشفى لا يكون طبيبا وأن وزير الصحة يكون ممارسا عاما وليس حاملا لدرجة
الدكتوراه في أحد فروع التخصصات الطبية. وأنا هنا لا أحاول الحط من قيمة درجة
الدكتوراه ولكنني أقول أن حاملها يكون أصلح ما يكون لاستمرار البحث في مجال تخصصه الضيق،
ولكنه لا يتفوق بالضرورة على حامل الدرجة العلمية الأولى الذي يمتلك الاستعداد
الشخصي لتطوير قدراته.
ولكي يكون كلامي أوضح
سأضرب لك مثالا. أراد أحد مراكز الترجمة بدولة خليجية الحصول على عدد من مترجمي
اللغة الإنجليزية المجيدين، وتقدم لهم من بين المتقدمين شخص حاصل على الدرجة
العلمية الأولي في تخصص علمي وحاصل على الدرجة العلمية الأولى في تخصص أدبي ويحمل
عددا من مؤهلات إضافية في اللغة الإنجليزية والترجمة بالإضافة إلى تمرسه في مزاولة
مهنة الترجمة لسنوات عدة - في دولة ناطقة بالإنجليزية - ومقدرته الأدبية واللغوية.
ومهنة الترجمة تحتاج القدرة اللغوية وتنوع الخلفية والممارسة العملية، وتلك
المقومات أبعد ما تكون عن التخصص الضيق، لكن المركز المذكور أصر على أن الصالح له
هو حامل حرف الدال في الترجمة، وهنا يصبح حرف الدال غير دال على الإطلاق! فدرجة
الدكتوراه في الترجمة تعني أن حاملها قد قرأ بغزارة عن نقطة ما في تاريخ الترجمة
أو ميكانيكية الترجمة أو حياة أحد شيوخ الترجمة! ودرجة الدكتوراه في الأدب
الإنجليزي تعني أن صاحبها قد تعمق في دراسة فترة زمنية معينة في تاريخ الأدب أو
أعمال أديب معين، ولكنها لا تعني على الإطلاق ضرورة إجادته للغة الإنجليزية ذاتها
أو قدرته على الترجمة منها أو إليها أو أن لغته العربية فوق مستوى الشبهات!
إلى هنا ولا أستطيع
كتم هذه القصة الفكاهية المرتبطة بالمفهوم السابق عن الدرجات العلمية ... الأخ
" نفيس" أحد رفاق الهجرة من الحاصلين على درجة البكالوريوس في العلوم
الزراعية ومعها درجة الماجستير في تخصص ما لا أذكره من جامعة الإسكندرية ... لغته
الإنجليزية ظلت في حاجة ماسة دائمة لأعمال الصيانة
والترميم، رغم عمله كمدرس لعلم الأحياء ( البيولوجيا ) بإحدى المدارس الثانوية
الأسترالية ... كان موسم كتابة التقارير عن الطلبة في منتصف وفي أواخر العام
الدراسي يعني بالنسبة لي جهدا مضاعفا، حيث كان علي أن أسهر مع الأخ نفيس لأداء
واجبات الصداقة التي تستدعي مراجعة تقاريره من الناحية اللغوية، وكان ذلك يتطلب
غالبا إعادة صياغتها ... وامتد ذلك إلى مراجعة البرامج الدراسية التي يكتبها
والتقارير الكتابية المتعلقة بوظيفته كنائب رئيس قسم العلوم بمدرسته ... لم أتضجر
من تلك المساعدة التي قدرني المولى علي إعطائها في أوج شبابي وتوفر نشاطي ومثابرتي.
وجاء يوم أراد فيه
الأخ نفيس التقدم لوظيفة محاضر بأحد المعاهد العليا! فجاء يستشيرني، أو ربما
للتأكد من مدى الدعم الأخوي في مثل ذلك الموقف ... قلت له أن هناك فارقا بين
"العك" لصغار الطلبة في فصل مغلق بالمدارس الثانوية وبين مخاطبة الشبان
الكبار بالمحاضرات المفتوحة بالمعاهد العليا ... الوضع الأول "مستور"
بينما الوضع الثاني "مكشوف ساتره"! لكن الأخ نفيس لم يسمع النصيحة،
وانتقل إلى الوظيفة الأكثر بريقا والتي لا تناسب إمكانياته المحدودة، لكي يبدأ رحلة
عذاب لابد وأنها انتهت بالكثير من مواقف "البهدلة" التي منعه كبرياؤه من
سردها وتطلبت الإنقاذ بالتقاعد المبكر.
عاد الأخ نفيس إلي
مصر، ومصرنا دولة عربية "تموت في" حرف الدال الذي تزركش به مقدمات
الأسماء فوق الكروت وينادى حامله بلقب "دكتور" منطوقا "دُكتر"، وكأن ذلك يسبغ على حامل
اللقب قدرات إضافية خارقة لا تتحقق بدونه ... وكأن من لا يحمل اللقب قد حرمه الله
من العلم والكفاءة، فإذا أضفت إلى ذلك ولعا طبيعيا لدى نفيس بالتميز وحب الظهور أمكنك
أن تفهم المبررات والدوافع لما تطور عليه حال الأخ نفيس بالإسكندرية ... حينما
طلبته تليفونيا ردت على التليفون إحدى قريباته:
- ممكن أكلم الأستاذ
نفيس؟
- تقصد دكتر نفيس ؟
- .... آ..آ.. ...
أيوه
واستنتجت أن الأخ
نفيس قد أنعم على نفسه بالدكتوراه الفخرية اللازمة للحياة في دولة عربية.
جاء الأخ نفيس في زيارة لأستراليا - التي لم تنقطع صلته بها - لدراسة ذلك
الحلم الذي راودني قديما وما زال يراود الكثيرين، وهو العمل بالتصدير والاستيراد
دون رأسمال! ذلك الحلم الذي انتهى بموت مهنة الوسيط التجاري في عصر ثورة المعلومات.
كنت في ذلك الوقت في أوج تشبثي بذلك الحلم البعيد، وطلب مني الأخ نفيس أن أكتب له
عقدا مع مكتب التصدير والاستيراد المسجل باسمي كوكيل للمكتب عن منطقة الشرق الأوسط
... لم يكن مضمون أو مفهوم هذا التوكيل هاما بقدر ما كانت أهمية توقيعي وختم
المكتب علي التوكيل بما يوضح دون لبس أو إبهام أن ذلك التوكيل يخص "الدكتور
نفيس العنقي" ، وكان هذا التوكيل بمثابة شهادة دكتوراه عرفية de facto لكي يضعها الأخ نفيس على حائط مكتبه بالإسكندرية ... هل أدركت الآن تلك
القيمة العظيمة ببلادنا العربية التي نعطيها لحرف الدال غير الدال؟
-----------------------------------------------------------
* إضافة: هذا مقال قديم تمت كتابته في ثمانينيات القرن الماضي أود أن أضيف إليه مقارنة واضحة بين محمد مرسي العياط وعبد الفتاح السيسي. الأول يحمل حرف الدال الذي ربما كان أيضا "مضروبا" أي مزورا بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية في فترة إعداده لمهمته الخاصة بتدمير مصر. رأينا جميعا كيف أن ذلك الرجل - إذا افترضنا حسن نيته - لم يكن يمتلك أي قدرة أو معرفة بالصورة الكاملة للموقف المصري وكيفية التخطيط لمعالجة أي مشكلة من المشاكل الاقتصادية العديدة المتشابكة. أما إذا افترضنا سوء نيته - بحسب زعم المخابرات المصرية المرجح صحته - فإن الأمر يكون أشد بلاء. قارن ذلك بالرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي يستعين بالخبراء - كل في مجال تخصصه - ثم يضع تلك الخبرات في خريطة أو خطة متكاملة التفاصيل تحدد الإمكانيات ومراحل التنفيذ وغير ذلك مما يمكن أن نسميه القدرة على رؤية الصورة الكاملة والتعامل المنظم معها. شتان بين هذا وذاك. نعم هناك فرق بين الجهل وضيق الأفق وبين التفكير المرتب المدعوم بالعزيمة والوطنية التي تصل إلى درجة التفاني وبذل النفس في سبيل الهدف. وأزعم أن الأيام ربما تثبت لنا مدى وطنية هذا الرجل، ولا أقول عظمته حتى لا يتملكه الغرور (بضم الغين)، فهو أبعد ما يكون عن ذلك الغرور (بفتح الغين) الذي تملك مرسي العياط.