اتضحت
الأمور بعض الشيء بما يسمح بشيء من الفهم لما يجري اليوم على أرض المحروسة. لا أدري
سبب تسمية مصر بالمحروسة، فقد قضت عمرها "متعوسة" بحكم موقعها الجغرافي
الذي جعلها هدفا لكل من هب ودب، وكتب على أهلها على مر العصور ذلك "التخلف
الوبائي" الذي كلما ازدهرت وأوشكت على الشفاء منه عاد واستشرى. هذا التخلف
أورثها اليوم عدة مشاكل هي على سبيل المثال لا الحصر:
- التخلف الديني إن صح التعبير. وأقصد بذلك، التقوقع في فكر ديني ضيق ينبذ الآخر ويعكر القدرة على الفهم أو التفاهم.
-
التخلف الاقتصادي بسبب الجهل المستشري الذي يجعل الحاكم والمحكوم يعجزان عن رؤية الصورة الكاملة، فيدفع بالدولة نحو مشاكل معقدة يصعب توفير
الحلول لها.
-
المنظومة التعليمية الفاشلة التي تبلد العقول وتجعل الحصول على الشهادة أهم من
الدراسة ذاتها. يحضرني هنا قول قريب لي في آخر زيارة لي لمصر منذ نحو 30 سنة "لماذا
لا تحصل على الدكتوراه وأنت في الخارج؟". ما زلت أتذكر دهشته حينما أجبته
بأنها لا تلزمني في عملي الحالي. ويذكرني ذلك بمن "كافح" من المصريين في
المهجر وحصل على "الدكتوراه" السحرية
التي تجعل منه عالما في كل شيء من منظور كل المصريين والعرب، ثم التحق بعد ذلك بصفوف
العاطلين الباحثين عن وظيفة. لي مقال قديم في هذا الشأن سوف أعيد نشره، وعنوانه "حرف الدال غير الدال".
أعود
إلى أصل الموضوع وهو محاولة فهم الأمور في مصر الآن. يقع المصريون اليوم في ثلاثة
فئات سياسية لا رابع لها:
- الإخوان المسلمين ومن يدور في
فلكهم من أنصار الرجعية والتخلف. تلك مجموعة متحجرة لا قدرة لديها على الفهم، ولا
يمكنها ضيق أفقها من رؤية الصورة الكاملة أو إجراء أي حسابات عملية على أرض الواقع.
كل همها هو التشدق بالشرعية وكيف أن مرسي وعصبته أو عصابته قد اختارهم الناس
وخلعهم العسكر في انقلاب غير شرعي. يتناسى هؤلاء عدة عوامل هامة هي أن الظروف دفعت
بالناس إلى اختيار ذلك الحمار الشرعي الذي كان على وشك الدفع بمصر إلى نفس
المستنقع العراقي الليبي ولكن الله سلم. هذه الفئة الضالة سوف تثوب إلى رشدها طوعا
أو كرها في المستقبل القريب.
- الفئة الثانية هي أنصار الحكم العسكري الحالي. أنا هنا أسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية دون تجميل مضلل. وربما قد تدهش لأنني أصرح الآن وبكل قوة أنني من هؤلاء. لا تنس - قبل أن تلعنني - أنني لعنت عبد الناصر وهو في أوج قوته، وهربت منه ومن نظامه وما زلت ألعنه، ولعنت السادات في حياته وبعد مماته، وما زلت ألعنه لأنه كان امتدادا لنفس النظام الدكتاتوري الفاشل، ولعنت مبارك ومازلت ألعنه، لأنه تفوق على كل سابقيه في الجهل وزاد. تذكر بعد كل ذلك أن عبد الفتاح السيسي لا يملك لي نفعا ولا ضرا، لكنني أؤيده في كل مساعيه الوطنية، وأغفر له كل ما خفيت أسبابه عني والتي سوف يكشفها التاريخ مستقبلا. والسبب بسيط جدا وهو أن الجيش المصري اليوم بما اكتسبه من خبرات مدنية منظمة هو الأقدر على تحقيق النتائج العملية، بعد أن كانت مصر تنزلق بسرعة في طريقها إلى مصير الدول الفاشلة. لقد ساقتنا الأقدار اليوم إلى منظومة تشبه المنظومة التي دفعت بدولة هزيلة مثل إسرائيل إلى التفوق. كل الإسرائيليين يصبحون جنودا في وقت الحرب. المرادف المصري اليوم هو أن كل جنود مصر يعملون بالأعمال المدنية لبناء مصر بعد انهيارها. الحديث بغير ذلك ترف واستنزاف لا نملكه. ثم تعال معي لنرى ما حققته الديمقراطية الغربية لأمريكا: الديمقراطية الغربية جعلت الأقلية الصهيونية تحكم الشعب الأمريكي وتذله وتفقره وتحرمه من العلاج الصحي والتعليم وتبدد ثروته من أجل إسرائيل. المعادل المصري هو أن الديمقراطية الغربية التي نحلم بها قد تأتينا – بل لا بد لها وأن تأتينا لو طبقناها اليوم - بالمعادل للصهيونية الأمريكية وهو الرجعية الدينية الإسلامية.
أما المعسكر الثالث والأخير من المصريين فهو هؤلاء الكادحين الذين لا يهمهم هذا أو ذاك، وقد سرق الفقر منهم كل شيء. إنهم يشكلون السواد الأعظم من أهل مصر، يهيمون كالأشباح بحثا عن لقمة العيش في بلد لا يجوز له أن يكون فقيرا. وأعتذر مسبقا عن تشبيه كل منهم بالحمار أو البغل "بوزه في مخلته، إن لكزته سار، وإن تركته وقف يمضغ". لكن تلك الدواب البشرية تتحول إلى بشر سوي في البيئة المناسبة، وهي مصر المستقبل الناهضة بعد سنوات من الحكم العسكري الفعال الذي يبني ولا يهدم، يخطط ولا يتآمر على ممتلكات الوطن بهدف فرض شرعية للفقر والتخلف الحضاري.
هذا
هو الموقف المصري الآن بصفة عامة. أما التفاصيل الدقيقة فلا علم لي بها. لماذا يحاكم
مرسي ويرتع مبارك؟ علمه عند ربي، وعند أهل العلم. كم سرق مبارك؟ لا علم لي
بالتفاصيل، فكل ما أعلمه هو أن هذا النكرة كان مفسدا في الأرض، مهما أعطانا
المنظرون من مبررات سخيفة. ماذا فعل البرادعي وماذا كان دوره؟ لا علم لي بالتفاصيل، ولكن
هناك قاعدة عامة هي أن من يعمل ويرتقي بالمؤسسات الدولية يتم تجنيده قبلها
بالمخابرات الأمريكية. وقد كان المخطط الأمريكي الذي أشرف عليه البرادعي في صالح مصر والمصريين، على غير توقع من العدو الصهيوني الأمريكي. الذي مازال يحلم "بلبينة" كل من سوريا ومصر. ما هو حجم جرائم الإخوان وهل كان قادتهم فعلا من الخونة
المتآمرين؟ الله وحده أعلم، ولكن الخلاص منهم ومن كفرهم بالوطن والمواطنة كان بلا شك فتحا مبينا. هل التفجيرات وعمليات التدمير الممنهجة لأبراج الكهرباء من
فعل الإخوان المضللين أم من فعل جهات مخابراتية أجنبية؟ الله أعلم، وهي في غالب الأمر من فعل جهات مخابراتية أجنبية، لكنها بالتأكيد
ليست كما يشيع الأعداء من فعل "الانقلابيين" لتمكينهم من الفتك بالإخوان الضالين. هل السيسي جزء من المنظومة
الأمريكية؟ لا أستطيع الجزم برأي، لكن الشواهد تقول بأنه حاليا الرجل القوي في
منظومة مصرية تبقي على مبارك في منتجع طرة ولا تحاسبه المحاسبة الثورية التي لو
تمت لانتهى متدليا من عمود نور في ميدان التحرير. لكن رأيي الذي يخصني وحدي هو أن
السيسي أحق الناس بالموالاة والتأييد لأن كل البدائل الأخرى غير صالحة في ظروف
البلاد الحالية، لا اليوم ولا في المستقبل القريب. هذا الرجل يستحق البقاء في الحكم
لفترتين، الثانية منهما تكون بإذن الله بتأييد شعبي سليم ضد من تكون له حينئذ شعبية
وندية للسيسي. أكرر أن هذا هو رأيي الشخصي، وأكرر أيضا على سبيل الفكاهة أنه صواب
يحتمل الخطأ.
ختاما
أتمنى أن يكون في هذا التحليل بعض الفائدة، وإلا فإنني والعياذ بالله أصبح مثل محمد
حسنين هيكل الذي يتكلم كثيرا ولا يقول شيئا والقراءة له - بصراحة - مضيعة للوقت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق