المركبة الفضائية الأولى
بقلم: محمد عبد اللطيف حجازي
(من أدب المهجر الأسترالي)
تحكى كتب التراث عن ملك يسمى "النمروذ بن كنعان" ، ملك أطراف الأرض وأراد "جر شكل" الرب، والصعود إليه لمنازلته في عقر داره بالسموات العلى. وحيث أن الطيران الآلي لم يكن معروفا في تلك العصور السحيقة فإن السماء لم يحلق بها حينئذ سوى الطيور، ولم يرتفع عاليا سوى الحدادي والنسور.
فكر النمروذ وتدبر، في غياب المتخصصين في هندسة الطيران، فجاء بأربعة فراخ نسور صغيرة حبسها وأخذ يعلفها "البتلو" والضأن، ويرغمها على أداء تمرينات الصباح حتى نمت وبرزت منها العضلات المفتولة، وأصبحت جاهزة لتولى مهمتها كأربعة محركات لأول مركبة فضائية.
في اليوم الموعود جاء النمروذ بقفص كبير له طاقة علوية وأخرى سفلية، وأمر بأن تربط أرجل النسور بحبال، كل نسر إلى ركن من أركان القفص. دخل النمروذ إلى القفص ومعه غلامه وقطعة من اللحم على طرف عصا طويلة، وعندما حانت ساعة الصفر أصدر النمروذ أمره بالإنطلاق الذي يسمونه بالإنجليزية take off فخلوا سبيل النسور ومد النمروذ العصا عاليا فانطلقت النسور محمومة وارتفعت بالقفص عاليا فاخترق السحاب.
صاح النمروذ على غلامه :
- افتح يا واد الطاقة الفوقانية وقول لي شايف إيه ...
ففعل الغلام ورد قائلا :
- أرى السماء زرقاء من غير سوء ..
- طيب افتح الطاقة التحتانية وقول لي شايف إيه ...
ونفذ الغلام تعليمات سيده ورد قائلا :
- أرى السحاب كلحية شيخ عجوز...
ويبدو أن المركبة قد تعرضت بعد ذلك لبعض المطبات أو الجيوب الهوائية أو أن الرب قد تراجع عن منازلة النمروذ، أو أن النمروذ قد تعرض لوعكة مما يصيب ركاب الطائرات والسفن ... أيا كان الحال فإن النمروذ قرر العودة وناور النسور لكي تعود بعمل ما يسمى بالإنجليزية U turn
، فعدل من اتجاه العصا لكي تشير قطعة اللحم إلى أسفل، وانطلقت النسور متجهة إلى سطح الأرض.
لا يروى لنا "أبو جعفر محمد بن جرير الطبري" - في كتابه "تاريخ الأمم والملوك" - ما حدث عند الهبوط،، وهل كان هبوطا عاديا أم هبوطا اضطراريا، إذ أنه لكي يكون الهبوط بصورة لا يدق بها عنق النمروذ فإن الأمر قد يلزمه أربع عصي "ملحمة" وأربعة من خبراء الطيران النسري، حتى يمكن مناورة النسور وإقناعها بعمل هبوط عادي مما يسميه الفرنجة soft landing وليس هبوطا اضطراريا من النوع الذي يسمونه crash landing والذي لا تحمد عقباه، ولا يسمح للنمروذ بمجرد التفكير في جولة أخرى مع الرب، الذي ربما منعه عنصر المفاجأة من النزال في الجولة الأولى!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق