بقلم: محمد عبد اللطيف حجازي
كان الشعب المصري طيبا مستكينا بطبعه، فالنيل يأتي إليه بالخير ولا مبرر للانفعال أو الجهد المسرف. ومع تفشى الأمية والجهل كان الناس يتكاثرون بلا قيود ولا يهتمون بتحديد نسلهم، لأن الله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه العزيز "نحن نرزقكم وإياهم". ولأن الله يرزق الجميع وتقع عليه عز وجل مسؤولية إطعامهم، فان رجال الدين - جزاهم الله - قد أفتوا بأن الحد من النسل اعتراض على مشيئة الخالق، وتجاهلوا قول الخالق بضرورة استعمال العقل حينما وجه إليهم القول بأنهم "قوم يعقلون" وأنهم "يتفكرون" وأنهم أيضا "أولوا ألباب"، أي أن لهم عقولا لو استخدموها لعرفوا أن ذلك الشريط الأخضر الضيق على جانبي النيل لا يمكن له أن يتحمل تلك الأعداد الكبيرة من البشر، إلا إذا توفرت لهم حكومة وطنية يقل بها عدد المرتشين واللصوص ويتوفر بها الخبراء الدارسين، بحيث تكون لديها القدرة على التخطيط الذكي لإعادة توزيع الخريطة السكانية بنقل العاصمة بعيدا بعدة مئات من الكيلومترات عن موقعها الحالي وغزو الصحراء الغربية. وهو أمر يبدو أن الله يعرقله لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى دون سواه.
ومع ازدياد أعداد الناس تناقصت قيمتهم كأفراد فإذا داست أحدهم سيارة فإن الأمر لا يتطلب أكثر من تغطية الجثة بالجرائد إلى أن يتم نقلها، بعدها يعود كل شيء إلى مجراه العادي وكأن شيئا لم يحدث. وإذا اختفى شخص ما كما لو أن الأرض قد انشقت فابتلعته فجأة كان من المقبول افتراض ذهابه إلى "المعتقل"، وبقائه هناك أو موته دون محاكمة. وكنت ومازلت أتساءل: لو أن دكتاتورا مثل عبد الناصر أو السادات أو مبارك قد ظهر في دولة تمرست في مزاولة الحكم الديمقراطي فماذا يكون مصيره؟ هل يضربونه بالطوب إلى أن ينفق؟ وأجد الإجابة على السؤال صعبة، لأن الشعوب والنظم السياسية المتقدمة التي تمارس الديمقراطية لا تفرز مثل هؤلاء الأفراد ولا تسمح نظمها بوصولهم إلى الحكم، وإذا وصلوا بطريق الخطأ فإن أحزابهم تفرض عليهم سلوكيات محددة وإلا عزلتهم، ولا يمكن لأي رئيس للجمهورية أن يرشح نفسه للحكم إذا ما قضى فترتين متعاقبتين فوق الكرسي. أما نحن في مصر فإننا قد ابتدعنا نظاما يصلح مثلا تحتذيه كل دول العالم الثالث المتخلف، هو نظام "الجمهورية الوراثية"، حيث يتوارث العسكر حكم مصر واحدا تلو الآخر ولا يترك العسكري منهم ذلك الكرسي الذي يلتصق بمؤخرته إلى أن يخرج إليه عزرائيل بتكليف خاص من رب العباد ... لا تهم كفاءته أو مدى صلاحيته للمنصب، طالما تمكن من فرض إرادته على الناس بالاستفتاءات الهزلية والانتخابات المزورة، ولفترات طويلة في حد ذاتها يبلغ كل منها ست سنوات. وقد يحكي التاريخ مستقبلا أن حمارا يدعى محمد حسني مبارك قد نجح في البقاء حاكما لمصر دونما حاجة إلى أي قدر من حصافة أو ذكاء ما يربو على ربع القرن، دون أي محاولة جادة للخلاص منه.
يبدو أن كل دكتاتور حكم مصر كان يعتقد مخلصا أن مصر لم تنجب من يصلح للحكم سواه، وأنه لو ترك الكرسي لغيره فإن الأرض ستتوقف عن الدوران! جاء عبد الناصر إلى الحكم بانقلاب عسكري لا يختلف كثيرا عن غيره من الانقلابات التي شاعت بين دول العالم الثالث بعد رحيل المستعمر الأجنبي وفى غياب المؤسسات الديمقراطية عميقة الجذور، التي تميزت بها الدول الكبرى. كان الشعب المصري مستعدا للتغيير بعد أن سئم الأحزاب السياسية الموالية للقصر، ولم يخطر له أن مخلصيه سيصبحون يوما جلاديه.
أذكر أنني - عندما كنت صبيا صغيرا في أوائل عام 1952 - كنت أسير مع الطلبة زملائي في مظاهرات صاخبة نهتف "إلى أنقره يا ابن المره" وهو وصف لتحقير الملك فاروق ونعته بان أباه كان امرأة وبأنه يجب أن يذهب عنا إلى بلاد أجداده. وبلاد أجداده إن شئت الدقة كانت ألبانيا، ولكن يبدو أن "أنقره" كانت أقرب للقافية من "تيرانا Tirana"، أو ربما لأن تيرانا صارت عاصمة لألبانيا منذ عام 1920 فقط. والجملة على أي حال أكثر وقعا من جملة غيرها مثل "إلى تيرانه يا ابن الجبانه"! لم يتعرض لنا أحد ولم نر أثرا لذلك الغول الذي جسده فلاسفة "الثورة" فيما بعد وأسموه "البوليس السياسي" ... لم يكن عبد الناصر قد ظهر بعد وكان الشعب يطالب بالتغيير. وأذكر أيضا هتافي ضمن أقراني مطالبين بسقوط حكومة إبراهيم عبد الهادي الذي نعتناه في هتافاتنا بأنه "عبد الهادي كلب الوادي". وأذكر أيضا كيف خرج أحمد حسين بصورة معبرة لمتسول في أسمال يمد يده على الصفحة الأولى لصحيفة "مصر الفتاة"، وعليها العنوان الكبير "رعاياك يا مولاي" مصورا مدى الغبن الاقتصادي الذي عانته الطبقة الاقتصادية الدنيا في تلك الأيام. لم يكن هناك حينئذ فلاسفة للثورة يهولون ظلم الماضي وأوهام المستقبل، وقام الناس مطالبين بحقهم في الحياة دون طبل أو زمر وفى ديمقراطية وحرية تامة لم تعرفها مصر بعد ذلك، دون أن يتعرض لهم أحد بالأذى والاعتقال والحبس والتعذيب والتشريد. لم يحدث شيء للمرحوم الوطني المخلص أحمد حسين في عصر فاروق، بينما لقي نجله - مجدي أحمد حسين - الأمرين في عصر حمارنا المبارك. مجدي حسين لايقل وطنية عن والده العظيم وإن كان غارقا حتى لحيته في المستنقع الديني، لكنك لا تملك إلا أن تحبه وتحترمه لأن عقيدته المسرفة لا تتعارض مع وطنيته.
كتب الكتاب ما كتبوا عن تلك الفترة الزمنية لكنني أورد هنا ما لمسته بنفسي، وانطباعاتي كفرد عادى من أبناء جيلي من المصريين. خدعتني الدعاية والكتابات المأجورة، وإشراف الدولة التام على وسائل الإعلام، فظننت أول الأمر أن عبد الناصر كان ذلك القائد الملهم فريد عصره الذي لا يجود الزمان بمثله إلا نادرا. ومازال الكثير من الناس يؤمنون بذلك حتى يومنا هذا، ويمسحون كل الأخطاء في المحيطين به، رغم بزوغ الشمس فوق الحقيقة العارية، فالنوايا الحسنة والقدرة على التأثير واستقطاب الجماهير - التي يسميها الفرنجة بالكاريزما charisma - لا تغني عن العلم والمقدرة والفهم للعلوم السياسية والمتغيرات الدولية. لم يكن عبد الناصر يمتلك تلك القدرات، وأحاط نفسه بالأفاكين وليس بأهل العلم والمعرفة، فكان أقرب الناس إليه ذلك الصحافي الذي كان يكتب عمودا مطولا بجريدة الأهرام تحت عنوان "بصراحة" فيطحن الهواء ولا يقول شيئا.
من هو عبد الناصر على وجـه التحديد؟ عبد الناصر كان شابا مكافحا من أبناء الطبقـة الدنيا ... كان شديد الحقد على الأغنياء ... وغالبا ما كان يؤمن بأنهم خونة يجب سحقهم بلا هوادة، دون أن يدرك أن الرأسمالية الوطنية هي عصب الاقتصاد القومي بكل الدول المتقدمة. لم يكن لديه أي معـرفة بالنظم السياسية والاقتصادية وكيفية إدارة الدول وكان سوقيا يجيد مخاطبة الدهماء، تنقصه المقومات الأساسية التي يجب أن تتوفر في "رجل الدولة statesman"، لكنه كان وصوليا يعرف كيف يستغل الآخرين وكيف يقضي على أعدائه وعلى كل من يرمي به حظه العاثر في طريقه دون شفقة، وتلك مقومات يطلقون عليها في مجموعها اسم "المواهب القيادية". استغل عبد الناصر - بعقليته التآمرية - القائد الواعي "محمد نجيب" الذي كان يفوقه سنا وعقلا وعلما فجعل منه واجهة تضمن نجاح الانقلاب العسكري والوصول إلى الحكم، ولما تم له ذلك انقلب عليه في وصولية وخسة نادرة، واستهتار تام بمشيئة الشعب الذي انجذب تلقائيا إلي ذلك الوجه الأسمر الذي أشع النبل والأصالة، فحدد إقامته حتى لا يراه الناس أو يسمعوا عنه إلى أن يواريه النسيان. وقد تم له كتم كل اعتراض للقلة الواعية من العسكريين الذين تصدوا له فأحالهم إلى التقاعد المبكر، وبعضهم لم يزل بعد في العشرينات الأولى من عمره.
نحن المصريون قد تفننا في صناعة الأصنام وعبادتها فجعلنا من عبد الناصر صنما وإلها جديدا نعبده ولا نعصى له رغبة. أخذت معاول الحكم العسكري تدك كل ما يمكن أن يقف في طريقها فتصم كل معارضيها بالخيانة وتنكل بهم. قضوا على كل الأحزاب والجمعيات والتجمعات بحيث أصبح من الصعب أن يجتمع أي عدد من الناس على رأي يخالف رأي النظام ... لقد أسلم المصريون أمرهم حينئذ بمحض إرادتهم، انتظارا للخلاص المنتظر على أيدي هؤلاء الضباط الشبان الجدد الذين بهرتهم الأضواء المسلطة عليهم، فاعتقدوا واهمين بأنهم أهل لمسؤولية إدارة أكبر دولة عربية دون مشورة من أهل المعرفة.
بدأت القرارات العشوائية غير المدروسة بالتأميم وتحديد الملكية الخاصة وشل حركتها، وتحولت الدولة بسـرعة إلى وحدة إنتاجية كبيرة متهالكة سيئة الإدارة والتخطيط، تحكمها نظريات فاشلة عن "الاشتراكية" الوهمية التي تعارض طبيعة البشر ورغبتهم في التنافس والتفوق. وتطور النظام بطبيعته إلى السرقة والمحسوبية والرشوة واستغلال النفوذ، وبدأت الموارد العامة في التناقص وبدأ الإحساس بأن هناك خطأ ما، لكن الوقت كان قد فات بعد أن أمسك العسكر برقاب الناس وأحكموا الوثاق، وتمرسوا في فنون الإذلال وتزوير الإرادة إلى يومنا هذا.
جاء عهد مبارك غير المبارك، مرورا بعهد السادات وخيانة كامب دافيد. كان مبارك "ماسح الجوخ" الرئيسي للسادات فكان ذلك كافيا لترشيحه لولاية عرش مصر. لا شك عندي في أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية رأت في غبائه الواضح مكسبا لها فدعمته وأحكمت قبضتها عليه. جمع مبارك في يده كل خيوط إدارة الدولة رغم أن كل مؤهلاته لا تعدو "رخصة قيادة طائرة حربية" أصبحت لاغية بالتقادم. وتدهورت مؤسسات الدولة بسرعة وازداد تفشي الفساد وسرقة المال العام وأصبح مبارك نفسه واحدا من أغنى مليارديرات العالم، يودع أمواله خارج مصر تحسبا لليوم الذي قد يثور فيه شعب مصر على مؤسسة اللصوص الحاكمة.
لكن شعب مصر المستسلم لا يثور بسهولة، ومبارك قد أحاط نفسه بطبقات سميكة من جيوش الحراسة، فهناك "الأمن المركزي" و "الحرس الجمهوري" و "مباحث أمن الدولة" وغير ذلك من المسميات لجيوش جرارة مهمتها الأساسية هي حراسة مبارك الدكتاتور الذي يتربع هو وزوجته وابنه على عرش مصر دون منازع. وقد استكان معظم المصريين تحت ضغط ظروف الحياة القاسية وتركوا مهمة خلاصهم لسيدنا المبجل "عزرائيل" ، ولك أن تتخيل يا سيدي القارئ ما يمكن أن يحدث لو ان عزرائيل قد "طنش" لسنوات أخرى وادعى الانشغال بأمور أكثر أهمية. والأدهي من كل ذلك لو ان المصريين استكانوا لمبدأ التوريث فجاؤوهم بمن ينطبق عليه المثل القائل "هذا الجحش من ذاك الحمار"، عندها قد يطول انتظار الشعب المصري المستكين إلى منتصف القرن الحادي والعشرين.