(13)
من أقوال الصحف العالمية
ترجمة وعرض: محمد عبد اللطيف حجازي
mehegazi@yahoo.com
05/04/2002
هذه الحلقة من هذا الباب خاصة بالانتفاضة الفلسطينية المباركة أستهلها بقصيدة أحمد مطر الأخيرة قبل أن أشرع في التجول بين سطور الصحف الأجنبية. ففي قصيدة بعنوان "نسألكم الرحيلا ... سوف لن ننسى لكم هذا الجميلا" يقول الشاعر المبدع أحمد مطر مخاطبا بعض الأغوات العرب:
ارفعوا أقلامكم عنها قليلاً
واملئوا أفواهكم صمتًا طويلاً
لا تجيبوا دعوة القدس .. ولو بالهمس
كي لا تسلبوا أطفالها الموت النبيل ا
دونكم هذه الفضائيات فاستوفوا بها "غادر أو عاد"
وبوسوا بعضكم .. وارتشفوا قالاً وقيلاَ
ثم عودوا ..
واتركوا القدس لمولاها ..
فما أعظم بلواها
إذا فرت من الباغي .. لكي تلقى الوكيلا !
طفح الكيل .. وقد آن لكم أن تسمعوا قولاً ثقيلاً
نحن لا نجهل من أنتم .. غسلناكم جميعًا
وعصرناكم .. وجففنا الغسيلا
إننا لسنا نرى مغتصب القدس .. يهوديًا دخيلاً
فهو لم يقطع لنا شبرًا من الأوطان
لو لم تقطعوا من دونه عنا السبيلا
أنتم الأعداء
يا من قد نزعتم صفة الإنسان .. من أعماقنا جيلاً .. فجيلا
واغتصبتم أرضنا منا
وكنتم نصف قرن .. لبلاد العرب محتلاً أصيلاً
أنتم الأعداء
يا شجعان سلم .. زوجوا الظلم بظلم
وبنوا للوطن المحتل عشرين مثيلاً
أتعدون لنا مؤتمرا ؟
كلا
كفى
شكرًا جزيلاً
لا البيانات ستبني بيننا جسرًا
ولا فتل الإدانات سيجديكم فتيلاً
نحن لا نشتري صراخًا بالصواريخ
ولا نبتاع بالسيف صليلاً
نحن لا نبدل بالفرسان أقنانا
ولا نبدل بالخيل الصهيلا
نحن نرجو كل من فيه بقايا خجل .. أن يستقيلا
نحن لا نسألكم إلا الرحيلا
وعلى رغم القباحات التي خلفتموها
سوف لن ننسى لكم هذا الجميلا
ارحلوا
أم تحسبون الله لم يخلق لنا عنكم بديلا ؟!
أي إعجاز لديكم؟
هل من الصعب على أي امرئ ..أن يلبس العار
وأن يصبح للغرب عميلا ؟!
أي إنجاز لديكم ؟
هل من الصعب على القرد إذا ملك المدفع ..أن يقتل فيلا ؟!
ما افتخار اللص بالسلب
وما ميزة من يلبد بالدرب .. ليغتال القتيلا ؟!
احملوا أسلحة الذل وولوا .. لتروا
كيف نُحيلُ الذلَّ بالأحجار عزًا .. ونذلُّ المستحيلا
تذكرني قصيدة أحمد مطر بمقولة لوكيل أحد الأغوات حينما وضع على وجهه تعبيرا جادا ثم ردد على مهل "سوف نتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب" … يا سلام … لقد ارتعدت فرائص جنازير الدبابات حول المباني الفلسطينية المهدمة وأوشك شارون أن يبول على نفسه من وقع هذا القول الغليظ … وعندما تم اتخاذ القرار الأول قال معلق البي بي سي أن إسرائيل كانت سعيدة بالقرار لأنها كانت تتوقع قطع العلاقات الدبلوماسية تماما.
اعذرني يا سيدي القارئ فقد طفح الكيل، ولنبدأ بافتتاحية الواشنطون بوست The Washington Post الأمريكية الصهيونية في 30/3/2002 بعنوان "أوقفوا الهجوم":
(ربما كانت هناك استراتيجية واضحة وراء الهجوم العسكري الإسرائيلي على رام الله ومكاتب قيادة ياسر عرفات هناك. إلا أنه من الصعب تبين ذلك إذا ما كان الأمر كذلك. لا شك أن آخر الأعمال الإرهابية الفلسطينية - بما في ذلك القنبلة الانتحارية المثيرة للقرف في مستهل عيد الفصح – يبرر ردا دفاعيا، ولكن من الصعب أن نرى كيف أن هجوما عسكريا على واحدة من أكبر المدن الفلسطينية والاستيلاء على مبنى السيد عرفات سوف يكون أكثر فاعلية في وقف العنف من الهجمات الإسرائيلية على مدى العام الماضي. على العكس من ذلك إن تكرار وتصعيد استخدام رئيس الوزراء أريل شارون للقوة لم يساعد إلا على زيادة تصاعد العنف الذي زاد عدد خسائر الأرواح الإسرائيلية والفلسطينية أضعافا. أوشك السيد شارون خلال ذلك على تدمير السلطة الفلسطينية، وهي الشريك الوحيد المتوفر للتفاوض بشأن وقف إراقة الدماء. إن هذا الهجوم الأخير يزيد من خطورة احتمال إتمامه لغرضه معرضا إسرائيل لحرب طويلة مع المتطرفين لا يمكن كسبها.)
يمضي المقال إلى ترديد نفس الأقوال اليهودية من أن عرفات يرفض وقف العنف رغم توسلات شيني Cheney وزيني Zinni وكيف أن مثل ذلك السلوك من عرفات لا يمكن تبريره. ثم يعود الكاتب ليخفف من لهجته عن عرفات قائلا:
(ولكن من الصعب أن نتخيل كيف يمكن له أن يكسب تأييد الفلسطينيين لوقف إطلاق النار في الأسابيع الأخيرة بينما وحدات الجيش الإسرائيلي تقوم بهجمات تدميرية داخل مخيمات اللاجئين أو كيف يمكن له الاستجابة لنداء الإدارة الأمريكية بأن يتحرك ضد الإرهابيين إذا ما وضعنا في الاعتبار أن القوات الإسرائيلية قد حصرته في طابق واحد من المبنى الرئيسي لقيادته وأن مساعديه وحرسه الخاص قد قتلوا أو قبض عليهم وأن الكهرباء قد قطعت وتم تدمير كافة المباني الأخرى بمجمع القيادة. لقد تأكد السيد شارون من أن السيد عرفات لن يستطيع تلبية المطالب الإسرائيلية والأمريكية.
وقد بذلت إدارة بوش كل جهد بالأمس - مثلما فعلت لعدة شهور- لكي تتجنب انتقاد أعمال السيد شارون. ومع ذلك فإن اختلاف السياستين الإسرائيلية والأمريكية يبدو شديد الوضوح، فقد قال سكرتير الدولة كولن باول بالأمس أن "الرئيس عرفات هو قائد الشعب الفلسطيني" بينما قال السيد شارون أنه عدو لإسرائيل ويجب فرض العزلة عليه. تقول الإدارة الأمريكية أن أولويتها هي وقف إطلاق النار بينما استدعى السيد شارون بالأمس الآلاف من جنود الاحتياط وطلب من البلاد أن تستعد لعمل عسكري قد يستمر لأسابيع. الإدارة الأمريكية تريد أن يصدق السيد عرفات على خطة سلام سعودية في بيروت بينما يرفض السيد شارون السماح له بالسفر. إذا ما كانت إدارة بوش تريد حقا إنهاء القتال الإسرائيلي الفلسطيني والعودة إلى عملية السلام فإنها لا يمكن لها أن تركز كل ضغوطها على الرئيس الفلسطيني وحده وقد أصبح سجينا لإسرائيل من الناحية العملية. يجب على الإدارة الأمريكية أن تطلب من السيد شارون وقف هجومه من أجل إسرائيل ومن أجل الإدارة الأمريكية.)
هذا الكلام لا ينطلي علينا. شارون لا يتحرك خطوة إلا بموافقة - وربما بتعليمات من - الإدارة الأمريكية التي أغضبها أن العرب صالحوا بين الكويت والعراق والحجاز (المعروفة باسم السعودية) وأعلنوا تضامنهم مع العراق واعتبروا الهجوم عليه هجوما عليهم جميعا. لذلك يبدو أن جورج بوش - ذلك الصبي الأخرق المغرور – قد أطلق يد شارون لينتقم من العرب بضرب الشعب الفلسطيني. وما زال يهود الإدارة الأمريكية يحاولون وصم الأعمال الفدائية الفلسطينية بالإرهاب بعد أن أدرجوا المقاومة الفلسطينية ضمن قوائم الإرهابيين.
أما هآريتز الإسرائيلية في 31/3/2002 فقد بدأت افتتاحيتها "القوة لا تكفي" بلعن عرفات وبشاعة "الإرهاب الفلسطيني" وكررت العبارات المعتادة عن مدى استعداد إسرائيل وعملها الدؤوب من أجل السلام وتنازلاتها السخية مثل إسقاط شرط أسبوع من الهدوء التام قبل التفاوض، إلى أن قالت:
(لقد حولت تلك الملابسات عملية جيش الدفاع الإسرائيلي إلى ضرورة، رغم مخاطر احتمالات الشجب والاستنكار. تشعر إسرائيل في مواجهة الإرهاب الفلسطيني بضرورة بسط قوتها للحد من عنصر العنف الذي أدرجه عرفات ضمن مناوراته بشأن وقف إطلاق النار. ورغم ذلك فإننا لا يمكن أن نتجاهل أن من طبيعة العمل العسكري أنه ذو قيمة محدودة، فهو لن ينهي المواجهة ولن يدمر الإرهاب.
بالإضافة إلى أن القوة العسكرية مهما كان طابع ربطها بوقت معين لا يمكن لها الوقوف بمفردها، بل ينبغي أن تكون جزءا من مفهوم استراتيجي. هذا المطلب الأساسي غائب في الموقف الإسرائيلي. لم تضع حكومة شارون لنفسها حتى الآن هدفا سياسيا مقبولا يمكن الوصول إليه لكي تتحرك نحوه. وأسوأ من ذلك أنه في ظل الملابسات الحالية قد تجنبت الحكومة فرصة الإمساك بالمبادرة السعودية لكي تحدد لنفسها وللشعب خط أفق سياسي.
لذلك فإن الحكومة قد أيقظت القلق مرة أخرى من أنها في غمرة صراعها مع السلطة الفلسطينية لم تمد يدا أمينة للسلام وإنما عملت على تحقيق العكس وهو الاستمرار في إحكام قبضتها على المناطق <المحتلة>. إن الوقت لم يفت لمواجهة هذا الشك ببدء حوار مع العالم العربي على أساس النتائج التي توصلت إليها قمة بيروت.)
تذكرنا هذه الافتتاحية بتضارب الإدارة الأمريكية، فبعد أن رسمت تلك الإدارة كل الخطوط العريضة لمبادرة الاستسلام وكلفت السعوديين بتقديمها باسمهم، هالتها النتائج الأخرى للقمة فنسيت مخططها الأساسي وأرادت الرد الانتقامي السريع من العرب بإطلاق العنان لذلك الثور اليهودي الهائج في سعيه الدؤوب لرؤية لون الدماء.
نشرت الواشنطون بوست أيضا مقالا لكاتبها ريتشارد كوهين Richard Cohen في 2/2/2002 بعنوان "من مدينة الجزائر إلى القدس". يقول الكاتب:
(كان أريل شارون مشغولا مؤخرا بحيث أنه يصبح مفهوما إذا ما كان قد فاته احتفال سنوي معين في الشهر الماضي هو الاحتفال بنهاية الحرب الفرنسية الجزائرية. قبل أن تنتهي تلك الحرب في 1962 كان عدد القتلى لا يقل عن 250 ألف من الجزائريين ومن الجنود الفرنسيين 25 ألف. أضف إلى تلك الأرقام حوالي 4500 من المستوطنين الأوربيين وحوالي 150 ألف من الجزائريين الذين كانوا يعملون مع الفرنسيين وربما حاربوا في صفوفهم وقد تم ذبحهم في نهاية الحرب.
لقد ذكرت المثال الجزائري لأنني اعتقدت منذ وقت طويل أنه نفس الاتجاه الذي سيأخذه العصيان الفلسطيني الثائر لا محالة. السبب ليس لأن كلا المجتمعين من المسلمين وإنما لأنهما يعتبران نفسيهما محتلين بالمستعمرين الذين يعتبرون أنفسهم بالتالي من أهل البلاد الأصليين تقريبا.
تذكر أن الجزائر لم تكن مستعمرة فرنسية وإنما كانت جزءا من فرنسا ذاتها، وتذكر أيضا أن الفرنسيين لم يحاربوا دون عزيمة، فقد رد الفرنسيون على أساليب العصابات والإرهاب منذ بداية الحرب بكل الكبت والشدة. كان الاغتيال شائعا والتعذيب روتينيا واغتصبت حقوق الإنسان بأفعال مثل الاغتصاب الجماعي. كان الفرنسيون يرون أن عدوهم همجي بربري ونزلوا بأنفسهم إلى ذات الدرك.
إن معركة مدينة الجزائر قائمة اليوم في القدس وتل أبيب وحيفا ونتانيا وفي أي مكان يمكن أن يتسرب إليه الانتحاري الفلسطيني المتفجر، والمعركة يخوض غمارها الإسرائيليون أيضا بأساليب تزداد يأسا، بدأت بالاغتيال الوقائي والآن بإعادة احتلال الضفة الغربية تقريبا.
إن المسار الذي أخذته الحرب أو الصراع الفلسطيني ربما يكون قد تاه عن شارون وربما عن الرئيس بوش فيما يبدو، لكنه لم يغب عن بعض المشاركين الآخرين. يقول محمد عوده "إذا قتلونا قتلناهم. لن يتوقف الأمر." عوده يقول ذلك عن علم فابنه عبد الباسط هو الذي فجر نفسه في نتانيا في الأسبوع الماضي وقتل 22 غيره في عشاء عيد الفصح.)
يمضي الكاتب إلى القول في نهاية المقال الطويل:
(كلما دفع شارون بالجيش الإسرائيلي إلى أعماق الضفة الغربية كلما زاد الخطر. فهو والعسكريون سيسبحون عندئذ في بحر مليء بأسماك القرش، في ثقافة تقدر وتمتدح الانتحاري المتفجر فهو يجلب لأهله التميز وبعض المال، وكلاهما لا تملك العائلة منه إلا القليل. يستطيع شارون إذا شاء أن يتخلص من عرفات لكن ذلك لن يغير شيئا في المدى البعيد، فسوف يأتي من بعده قائد جديد وسيستمر الصراع.
الفلسطينيون يمارسون الإرهاب، لا شك في ذلك. هذا شيء لا يمكن تبريره ولكن يمكن فهمه. الإرهاب سلاحهم الرئيسي الذي يؤتي ثماره وسوف يستمر إلى أن يشعر الفلسطينيون بأن أهدافهم السياسية قد تحققت، ومن الغباء أن نستمر في العواء بقولنا "تنت Tenet ثم ميتشل Mitchell" كما لو كان في ذلك تعويذة سحرية سوف تقضي على الإرهاب.
المأساة التي يمكن ضمها إلى باقي المآسي هي أن كل الأطراف الأساسية فيما يبدو توافق على ضرورة إنشاء الدولة الفلسطينية وتوافق على حق إسرائيل في العيش في سلام. ولكن لكي يحدث ذلك فإن على إسرائيل أولا أن تخرج من الضفة الغربية ومعظم المستوطنات وليس كلها. ربما يبدو الانسحاب وفض الاشتباك والعودة إلى حدود 67 خضوعا للإرهاب لكنه أيضا في صالح إسرائيل.
الفرنسيون الذين يعطون للولايات المتحدة دروسا في حقوق الإنسان برهنوا في الجزائر على أنه لا يوجد شيء يهزم عدوا يحارب بأسلوب أقذر وأحط وبعزيمة أقوى. لا يفلح القمع ولا القتال ولا التعذيب ولا الاغتيال. في هذا درس لأريل شارون وجورج بوش إما أن يستوعبوه وإما أن يكرروه.)
لاحظ أن هذا اليهودي - رغم اعتدال نبرته بعض الشيء - قد اقترح الإبقاء على بعض المستوطنات بالضفة الغربية. لا غرو فاليهودي كالكلب إذا التقط عظمة لا يتركها بسهولة، والضفة جزء أساسي من أسطورة أرض الميعاد وإسرائيل الكبرى.
نشرت الجارديان The Guardian مقالا لكاتبها جاكسون ديهل Jackson Diehl في 2/4/2002 تحت عنوان "الوسيط التجاري الذي يبدو اليوم مفلسا" انتقد فيه الموقف الأمريكي الذي تحول في رأيه إلى دور المتفرج. يقول الكاتب:
(حين تولى جورج بوش الرئاسة في العام الماضي ازداد الأمل في الشرق الأوسط في أنه سوف يكرر واحدا من أعظم مكاسب والده الذي استخدم الدبلوماسية القوية الخلاقة لجر الإسرائيليين والفلسطينيين بعيدا عن صراع يزداد سوءا إلى عملية سلام. وبدلا من أن يحدث ذلك فإن الظاهر الآن هو أن القتال الإسرائيلي العربي سوف يذكر على أنه يوغوسلافيا إدارة بوش الحالية. هذا موقف خطير سمحت الولايات المتحدة له بأن يتحول إلى كارثة بتخوفها وسلبيتها المتعمدة.
كانت البلقان الخطأ الأكبر للسياسة الخارجية في سجل إدارة بوش الأولى. لقد فتح بوش الأب الطريق لسنوات من إهدار الدماء برفضه اتخاذ الخطوات المتواضعة نسبيا، والتي كان من شأنها إيقاف الاعتداء الصربي في 1991. يبدو أن الإدارة الحالية مصابة بفشل مماثل في الشرق الأوسط. فبالرغم من أن هذه الحرب من عمل ياسر عرفات وأريل شارون، إلا أن الإدارة الأمريكية شريكة في ذلك بإصرارها غير المقبول على التنحي جانبا في منطقة كانت الولايات المتحدة فيها وسيطا لا غنى عنه لعدة عقود من الزمن.)
يستمر الكاتب في انتقاد الموقف الأمريكي وكيف أن كولن باول المتخوف غير الكفء كان من أسباب الفشل في يوغوسلافيا وكيف أن زيارته الوحيدة لإسرائيل في يونية من العام الماضي كانت نقطة تحول نحو الكارثة الحالية. يستمر الكاتب إلى القول:
( عندما وصل باول هناك أبدى اقتراحا معقولا بالدعوة إلى تطبيق خطة ميتشل لوقف إطلاق النار تحت إشراف مراقبين دوليين. لكنه تداعى وتراجع فورا أمام مقاومة شارون. وحينما جاء وقت رحيله كان قد ترك فكرة المراقبين تماما واستسلم لطلب شارون سبعة أسابيع من الهدوء التام - دون احتساب اغتيال إسرائيل للفلسطينيين المتشددين – كشرط قبل تطبيق أبسط الإجراءات الأولية لبناء الثقة.
صحيح أن الإدارة قد عزلت عرفات وحركت ضده ضغطا دوليا كبيرا لكي يسيطر على العنف، لكنها فشلت في أن تتخذ الخطوتين الأكثر صعوبة لكي ينجح هذا الأسلوب. لقد رفضت الإدارة أن تقدم أية رؤية لعملية سياسية جادة، وأهم من ذلك أن تضغط على شارون الذي تغاضت عنه، بل وباركت أحيانا أساليبه التي تزداد تدميرا.
استمر شارون فجعل من خطة "الضغط على عرفات" أضحوكة. كل فترة من الهدوء وضبط النفس الفلسطيني قابلها شارون بالتحية في صورة اغتيالات ونسف للبيوت أو إغارة على المناطق الفلسطينية. كلما شن معارضو عرفات هجوما إرهابيا كان الرد هجوما إسرائيليا مدمرا على قوات أمن عرفات. احتج متحدثو وزارة الدولة أحيانا لكن البيت الأبيض لم يقل ولم يفعل شيئا. وفي منتصف ديسمبر قامت الإدارة مرة أخرى بالتخلي عن أي تظاهر بالتدخل وذلك بسحب مبعوثها أنتوني زيني. حتى اجتياح شارون الشامل في نهاية الأسبوع قد فشل في الحث على رد فعل جدي.
ما كان لأي قدر من الجهد الأمريكي أن يوصل إلى تسوية سلمية بين عرفات وشارون، فكلاهما لا يريدها، ولكن مثال الإدارة الأمريكية الأولى يوضح ما كان يمكن عمله. فحينما ووجهت تلك الإدارة بعرفات وبرئيس إسرائيلي أشد تعنتا هو إسحق شامير رد بوش الأب وسكرتير دولته جيمس بيكر James Baker برؤية هي مؤتمر مدريد، واستخدمت الولايات المتحدة قوة نفوذها كاملة لإحضار الطرفين إلى هناك. قام بيكر بزيارة إسرائيل ثمان مرات خلال 18 شهرا. لم يتم التطرق مباشرة إلى حل ولكن المباحثات بدأت وتلاشى العنف ووقع عرفات وإسحق رابين اتفاقية صلح جزئية للسلام بعد عامين.
فلماذا رفض بوش الأصغر سياسة أبيه؟ يقول البعض أنه رد فعل زائد لسياسة إدارة كلنتون التي زادت من تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفشلت في التوصل إلى تسوية. ويشك البعض الآخر في أن بوش يرى أن سياسة الضغط الزائد على إسرائيل كانت خطأ أسهم في فشل أبيه في إعادة انتخابه. في أي من الحالين بدأ قرار هذا الرئيس التخلي عن التدخل يتضح كخطأ ذو أبعاد تاريخية.)
أما افتتاحية الجارديان بتاريخ 3/4/2002 فكانت بعنوان "المشكلة مع شارون هي أن سياسته تعمل في الاتجاه المضاد" أقتطف منها نهايتها:
(سياسة شارون لها قليل من المدافعين عنها وكثير من الشارحين لها، منهم وزير الخارجية البريطانية. فقد قال بالأمس أن الإسرائيليين "قد بلغوا حالا من اليأس التام" بسبب المتفجرين الانتحاريين. ربما لم تسنح الفرصة له في مقابلة قصيرة ليقول كل ما كان يود قوله، لكن أي شرح يكون منقوصا إذا لم يقيم اليأس الفلسطيني بالإضافة إلى اليأس الإسرائيلي. اليأس وحده - سواء كان فلسطينيا أو إسرائيليا – ليس بالمرشد الجيد لتخطيط السياسة، سواء كان هذا التخطيط من المعادين أو من هؤلاء الذين يطمحون إلى المساعدة. إن الحقيقة الرئيسية في الموقف الحالي هي أن إسرائيل لديها رئيس لا ينوي السماح بقيام دولة فلسطينية حقيقية، ربما كان مستعدا أن يقوم بالاحتفال بإنشاء بعض الترتيبات البلدية المضحكة تحت مسمى الدولة الفلسطينية. لن يمكن التقدم نحو السلام إلا إذا أرغم شارون على القيام - أو أن يستبدل شارون بآخر يكون مستعدا للقيام - بعمل مالا يود عمله. قد يدفع البعض بأنه بقدر ما يرفض شارون قيام الدولة الفلسطينية فإن ياسر عرفات - وربما كل العرب بصفة عامة – لا يقبلون حقيقة الدولة اليهودية. لكن تبني مؤتمر القمة العربي لاقتراح السلام السعودي يقترح غير ذلك. من المؤكد أن الخداع والتظاهر كانا دائما جزءا من الصورة في الشرق الأوسط، إلا أن هدف عملية السلام كان أساسا خلق الميل تجاه القبول والمصالحة ثم تحويل ذلك إلى واقع مستديم. سياسة شارون تعمل في الاتجاه المضاد تماما.)
نشرت جريدة الإيكونوميست The Economist في 4/4/2002 تحليلا سياسيا بعنوان "حرب شارون". بدا التحليل بانتقاد الموقف العربي في المؤتمر الإسلامي ورفض العرب وصم المقاومة الفلسطينية بالإرهابُ، ثم تدرج التحليل إلى محاولة تبرير هجوم شارون واعتباره دفاعا عن النفس. يستمر المقال:
(يصعب على معظم القادة العرب وعلى بعض الأوربيين قبول مفهوم الدفاع عن النفس. بل إن هذا المفهوم في الواقع يثير حفيظتهم. مد العرب يدا حاقدة إلى إسرائيل عارضين السلام ولكنهم أيضا عبروا عن إعجابهم بالإنتفاضة ووعدوا بتقديم العون لها فهم يرونها حربا عادلة وغايتها النبيلة من طرد الاحتلال الإسرائيلي تبرر وسيلتها المفزعة. وحتى الحكومات الأوربية المستعدة لوصم الإرهاب الفلسطيني بصفته الحقيقية ترفض حق إسرائيل في أي رد عسكري، وخاصة غزو المناطق التي وقعت إسرائيل على تسليمها لسلطة عرفات الفلسطينية طبقا لاتفاقيات أوسلو.
تبدي تلك الحكومات نوعا من الإنكار، فهم يرون أن السيد عرفات يظل هاما لعمل السلام ولذلك فهم يرفضون الاعتراف بما يدبره. ففي أوسلو تنازلت إسرائيل عن أراض محتلة مقابل وعد عرفات بمنع الهجمات منها. وقد أخل عرفات بوعده منذ فشل مباحثات كلنتون للسلام في كامب دافيد. ربما لم يخطط عرفات للانتفاضة وربما لم يتمكن رجال شرطته من وقف كل محاولة تفجير انتحارية ولكنهم لم يبذلوا جهدا جديا في الأشهر الأخيرة واضعين اللوم على استفزازات شارون. قام عرفات باستنكار بعض الاعتداءات الوحشية ولكنه حينما ينادي طالبا "مليون شهيد" لتحرير القدس فإن الشهداء يعرفون ما يقصد. باختصار شديد لقد وضع عرفات في جيبه ما أعطته إياه أوسلو ثم أعاد شن حرب تحرير أخرى آملا أن ذلك قد يجلب له ما فشلت المفاوضات في تحقيقه من مكاسب. وحينما نخس إسرائيل بشدة كافية كان لابد لإسرائيل أن ترد فتنهشه.
لقد نخس هو ونهشت إسرائيل، لكن ذلك لا يجعل حرب إسرائيل الجديدة حكيمة. فسيكون لها توابعها غير المحسوبة شأنها في ذلك شأن السواد الأعظم من المجازفات العسكرية. فقد تشعل حدود إسرائيل مع لبنان وقد تخل باستقرار دول عربية مثل مصر أو الأردن على وجه الخصوص وهما الدولتان اللتان دخلتا في سلم مع الدولة اليهودية. وقد تتسبب في سحب نهائي لعرض السلام الذي قدمته قمة بيروت، وقد تسببت بالفعل في إرباك أمل أمريكا في الحصول على تأييد عربي لمحاولة جديدة لخلع صدام حسين.
إضافة لذلك فإن "عملية الجدار الدفاعي Operation Defensive Wall " سوف تفشل بالتأكيد في تحقيق أهدافها المعلنة. أحد تلك الأهداف هو اقتلاع جذور "البنية التحتية" للإرهاب الفلسطيني. لكن ذلك يتكون أساسا من إمداد من الرجال والنساء الذين يشعرون بالمرارة وعلى استعداد لأن يقتلوا وأن يقتلوا في سبيل فلسطين. لابد وأن تزداد تلك المرارة بعد الحملة الإسرائيلية. الهدف الآخر المعلن هو "عزل" السيد عرفات. لكن كوميديا الموت التي قام شارون بتمثيلها حول المقر الرئيسي لعدوه القديم في رام الله قد أسفرت عن نتيجة عكسية.
كان عرفات قد فقد كثيرا من بريقه نظرا لإدارته العاجزة لفلسطين الجنينية فإذا به الآن يطفو من جديد كرمز محاصر لآمال شعبه. مهما قال السيد شارون فإن بقية العالم مستمر في أن يرى في عرفات المفاوض الوحيد الذي لا غنى لإسرائيل عنه.)
يتحدث التحليل بعد ذلك عن الأغراض المستترة للحملة الإسرائيلية ومنها الضغط على عرفات لكي يقبل بشروط زيني لوقف إطلاق النار وكيف أن النتيجة قد تكون الآن مزيدا من الشروط المتشددة من جانب عرفات لأن الفلسطينيين قد تحملوا بجلد شديد مزيدا من الخسائر في الأرواح والعيش ولابد من أن يقترن وقف إطلاق النار بتحقيق بعض مطالبهم مثل المراقبين الدوليين وإجلاء الإسرائيليين إلى حدود 67. يضيف التحليل القول بأن شارون مراوغ فهو يقول شيئا لمجلس وزرائه ويقول شيئا آخر للأمريكيين ثم يفعل شيئا ثالثا يختلف تماما، وهو معروف بعدائه لاتفاقيات أوسلو ورغبته في استمرار الاستيطان بالضفة الغربية وقد أعلن أنه نادم لأنه لم يقتل عرفات في 1982. يستمر التحليل إلى القول:
(ليس من قبيل المفاجأة في ضوء ذلك أن الأمريكيين قد تأرجحوا. لقد وضع القتال السيد بوش في حيرة. فهو جاد تماما في حربه العالمية التي أعلنها على الإرهاب. ولا يمكن له القول بأن إسرائيل لا تحارب الإرهاب بعد حدوث الأعمال الوحشية مثل عملية نتانيا. ومع ذلك فإن فلسطين غير مطابقة لنموذج 11 سبتمبر لأن إرهابها موجه لخدمة قضية جديرة هي الدولة المستقلة التي بذلت أمريكا نفسها جهدا لكي تقول بأنها تؤيدها. يستطيع السيد بوش أن يخلص نفسه من هذه الورطة من حيث المبدأ بأن يؤيد الغاية ويرفض وسيلة العنف التي اختارها الفلسطينيون للوصول بها. أما من الناحية العملية فإن ذلك ربما يتطلب العمل مع السيد عرفات، ذلك الإرهابي التائب الذي عاد إلى أساليبه الأولى. من هنا جاء جو التحسين والتعديل للسياسة الأمريكية. يبدو أن السيد بوش اليائس قد أعطى السيد شارون مطلق الحرية ليفعل ما يشاء لمدة قصيرة، على أمل أن السيد عرفات بعد تأديبه سوف يتبين له خطأ أساليبه، وقد أعطيت إسرائيل التعليمات بأن تحافظ على عرفات.
إذا كانت تلك هي الخطة فلا شك أنها خطة يائسة تماما. ماذا لو فشلت؟ ذلك هو مبلغ بؤس الإسرائيليين لدرجة أن رئيس المعارضة الإسرائيلي يوسي سارد Yossi Sarid قد اقترح فكرة لم تكن لتخطر في الماضي وهي إنشاء نوع من المحمية الدولية بالمناطق المحتلة على غرار البلقان حتى يعود السلام إلى أن يتم البت في وضعها النهائي. لا أحد تقريبا يأخذ هذه الفكرة على محمل الجد في الوقت الراهن. السيد شارون قد يقول أنها مكافأة للإرهاب. من الذي يجرؤ على توفير الجنود؟ لقد انهار الانتداب البريطاني في الأربعينيات. لكن اليوم قادم حيث قد لا يوجد بديل، إلا لدى اليهود والعرب في نزاعهم الأبدي بأن يغرق بعضهم البعض في بحر من الدماء.)
(14)
من أقوال الصحف العالمية
ترجمة وعرض: محمد عبد اللطيف حجازي
mehegazi@yahoo.com
12/04/2002
الفضائيات الأمريكية البريطانية الصهيونية التي تتستر على كل ما يسيء من أفعال الصهاينة قد أصبحت مضحكة. كانت إحدى مذيعات فوكسنيوز FoxNews تحكي عن تاريخ الانتفاضة فقالت بالحرف الواحد "لقد مات 1200 فلسطيني وقتل 400 إسرائيلي". هل لاحظت الفارق في تلك الحرب الصهيونية النفسية؟ اليهود يقتلون أما الفلسطينيين الذين يقتلون فإنهم فقط "يموتون". وسمعت ناتنياهو بالأمس على نفس القناة في خطبة ألقاها على أسماع بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي – من اليهود طبعا – وكان أبرز ما قاله هو أن " الإرهابيين الانتحاريين الفلسطينيين" يستهدفون المدنيين بينما الجيش الإسرائيلي يحاول جاهدا تجنب قتل المدنيين الذين يموت بعضهم بطريق الخطأ في ظروف لا يمكن تجنبها. اليهودي الماكر الكاذب لا يذكر الشبان الفلسطينيين الذين يجمعهم اليهود ويقتلونهم غدرا أو كما يقول بعض المترجمين العرب "بدم بارد in cold blood".
من أكبر الأخطاء التي يرتكبها إخواننا الفلسطينيون هو أنهم أحيانا لا يجيدون اختيار من يتحدث باسمهم. وعندما يتوفر فلسطيني جاهل لا يجيد الإنجليزية (أو العربية أحيانا) فإن القنوات التلفازية اليهودية تتنافس على دعوته للتحاور مع اليهود المتمرسين، لكي يتم إعطاء أسوأ صورة عن القضية الفلسطينية العادلة. أسوأ مثال لذلك شاهدته بالأمس على التلفاز الأسترالي في صورة محاورة شارك فيها المتحدث الرسمي باسم الفلسطينيين باستراليا السيد "علي قزق". حرام عليكم أيها الأخوة الفلسطينيين لأنني أعرف أن من بينكم في استراليا أساتذة ومتحدثين لبقين يمكنهم أن يخرسوا هذا التشويه الإعلامي اليهودي. على العكس من ذلك سمعت متحدثا فلسطينيا ماهرا في لندن اسمه "مروان بشارة" كان والله حجة حينما سأله مندوب قناة BBC عن رأيه في فكرة ترحيل ياسر عرفات إذ رد ببساطة وتلقائية ولغة راقية "الأجدر بالترحيل هو أريل شارون المطلوب للمحاكمة بالهيج The Hague عن جرائم الحرب التي ارتكبها ضد الفلسطينيين." والله لقد أسقط في يد المحاور الماكر الذي لم يجد ما يقول فانتقل بسرعة إلى نقطة أخرى، وانتهى اللقاء بعرض عادل واضح للقضية وتفنيد للمزاعم اليهودية يتناغم مع أسلوب تفكير المشاهد الغربي ويكسب تعاطفه. لقد سمعت عشرات المتحدثين الفلسطينيين المجيدين وليس لدي الفلسطينيين أي نقص في أعداد هؤلاء المثقفين الذين يمكنهم التصدي لأكاذيب اليهود في هذه الحرب الإعلامية، وعلى من لا يجيد الإنجليزية مثل ياسر عرفات أو حسني مبارك مثلا الحديث عن طريق مترجم متمرس. ليس هذا عيبا بل إن فيه احترام للذات وللغة العربية القومية إلى جانب توفير الوضوح وكفاءة التعبير في خدمة القضية محل النقاش.
اعذرني يا سيدي القارئ لهذه الافتتاحية المطولة ولنبدأ جولتنا باليهودي المعتق وليام كوهين William Cohen الذي عمل سابقا وزيرا للدفاع الأمريكي. لقد أنشأ باسمه شركة استشارية "للدراسات الاستراتيجية الدولية للأعمال"، وهذا على عادة اليهود في الإدارة الأمريكية يعني أنه يستمر في اغتراف المال العام عندما يستشيرونه في أمور تتطلب خبرته الوهمية وتدعوه الفضائيات الصهيونية لكي يبث سمومها كعليم ببواطن الأمور مثلما يدعون باراك وناتنياهو. كتب المذكور مقالا بالنيويورك تايمز The New York Times معقل الصهيونية الأمريكية في 6/4/2002 بعنوان "مهمة الشرق الأوسط" يحكي فيها عن "المهمة الصعبة" التي يقوم بها كولن باول. لم يذكر طبعا أن الهدف الحقيقي من الرحلة هو تضييع بعض الوقت في مناقشات هزلية لإعطاء الفرصة لشارون لكي يذبح المزيد من الفلسطينيين، وإنما قال:
(قرر الرئيس بوش في حركة مفاجئة أن يبعث وزير الدولة كولن باول إلى الشرق الأوسط في مهمة للمساعدة في إنهاء القتل والذبح الذي أشعل المنطقة.
سيقول المتشككون أنها مهمة مستحيلة وسيقول النقاد أنها مهمة ضرورية. تولت إسرائيل التحكم في مناطق أيدت أو آوت الانتحاريين المتفجرين إلا أن زيادة العنف في البلاد العربية المجاورة قد يهدد رئاسات تلك البلاد الصديقة لإسرائيل والولايات المتحدة. ليس هذا هو نوع "تغيير النظام" الذي تضمره الإدارة <الأمريكية> للمنطقة. يبدو أن التحرك الإسرائيلي قد أخمد الهجمات الانتحارية الآن لكن البيت الأبيض قد وصل إلى الاستنتاج بأن غياب وقف إطلاق النار وغيره من الإجراءات الأمنية الأخرى لا يجب أن يمنع ابتداء حوار سياسي بين الأطراف المعنية. إن شروط وقف إطلاق النار واضحة لكن وضوح شروط وأهداف المحادثات السياسية يقل كثيرا.)
يمضي الكاتب على طريقة حسنين هيكل واضعا نفسه في حوارات ولقاءات مع شخصيات رئيسية مثل الأمير عبد الله فيحكي كثيرا ولا يقول شيئا ذا قيمة يستحق أن أنقله عن "المبادرة" الصهيونية السعودية التي ما زال الإعلام الصهيوني يجري لها التنفس الصناعي وتدليك القلب، لكن الذي لفت نظري هو أن وليام كوهين كان يعطي في مقاله درسا في اللغة العربية فأورد أن المحللين الأمريكيين قد لاحظوا أن جامعة الدول العربية عرضت "علاقات طبيعية ilaqaat taba’iya مع إسرائيل وليس علاقات تطبيعية رمز إليها بكلمتين عربيتين شبكهما معا رأسا في ذيل وخرج بمصطلح "ilaqaattatbi’ya"، وهكذا لم نصبح وحدنا الذين نفتش عن المغزى والمقصود عند اللعب بالألفاظ كما يحدث في بيانات وقرارات الأمم المتحدة التي نادت يوما برحيل إسرائيل عن "مناطق محتلة" وليس عن كل "المناطق المحتلة". وكما طلب جورج بوش من شارون الجلاء عن الضفة الغربية "دون تأخير" وليس "فورا".
ربما لاحظت يا سيدي القارئ أن "تغيير النظام" قد أصبح المصطلح الصهيوني الجديد للحرب على شعب العراق. وهو اصطلاح مخفف يقلل من شأن الحرب والقصف والتدمير لبنية العراق التحتية التي يجاهد الرئيس العراقي لإعادة بنائها بعد التدمير الصهيوني الأمريكي البريطاني العربي الدولي في 1991. وهم يتكلمون عن الرئيس العراقي على أنه أسوأ أنواع القيادات الدكتاتورية وكأنما لا يعاني بقية العرب والمصريين مما هو أسوأ من ذلك من حكم دكتاتوري لعين يصعب الخلاص منه لأن أمريكا ترعاه وتحميه.
أما اليهودية إلن جودمان Ellen Goodman فقد كتبت في ذات المعقل الصهيوني "النيويورك تايمز" في 6/4/2002 مقالا بعنوان "المتفجرين المخدوعين" تحاول فيه التقليل من شأن الأبطال الفلسطينيين الشهداء الذين اصطلحوا على تسميتهم "الانتحاريين المتفجرين" وأحيانا "الإرهابيين الانتحاريين". تقول اليهودية الخبيثة بدهاء دفين وسذاجة مصطنعة:
( متى دخل مصطلح "الانتحاري المتفجر" قاموس المفردات اليومية؟ متى أصبح السلاح البشري واحدا من بنود الترسانات الحربية؟ .. قنابل يدوية .. بنادق .. انتحاريين متفجرين؟ لم تعد تصدمنا أنباء الشباب من الفلسطينيين الذين يلفون المتفجرات حول أجسادهم فيحولون أنفسهم إلى آلات قتل رخيصة متحركة. لم يعد يدهشنا ذلك الاستعداد للموت عند القتل أو القتل عند الموت.)
تمضي الكاتبة إلى سرد الأحداث وأعداد الموتى التي نعرفها وذكر الأعمار الغضة للفلسطينيين الذين نفذوا تلك العمليات. ثم تتعجب من الأمهات اللاتي يفرحن لموت أبنائهن والأخوة الذين يتفاخرون بهم، فتقول الكاتبة:
(من كل الأنباء المرعبة التي تأتي من ذلك الطريق المسدود المليء بالرعب والمعروف باسم الشرق الأوسط ليس هناك ما يلون دائرة العنف مثل ذلك العتاد من الأسلحة السيارة التي يسميها الإسرائيليون بالإرهابيين ويسميها الفلسطينيون بالشهداء. نحن نشاهد موكبا من الصغار الذين قد توصلوا في النهاية إلى ما يريدون أن يكونوه حينما يكبرون. إنهم يودون أن يكونوا موتى. ونحن أيضا نشاهد ثقافة بيئية تهتف وتمجد هذا الموكب المرعب المقزز.)
تمضي الكاتبة إلى سرد أحزان عائلات الشهداء وكأنها تتعاطف مع آلامهم وتتعجب من التصريحات التي تمجد مثل تلك "العمليات الانتحارية الشريرة" فتقول:
(لقد مجد آخرون الانتحاريين كأبطال في الحروب. فهناك الكاميكازي في اليابان ونمور التاميل في سريلانكا. كل قبيلة تقريبا أرسلت صغارها يجازفون بحياتهم. رغم ذلك فإن أي ثقافة بيئية تفقد المستقبل حينما تفخر بأنها تعد من الجيل القادم مخزونا من السلاح الرخيص. إن أي قائد يزرع أو يقبل من الانتحار خطة حربية له يكون فاقدا لوضعه الأخلاقي. ماذا نقول عن المجتمعات التي تمارس التضحيات البشرية؟ الساعة الآن الثامنة صباحا وقد وقع هجوم انتحاري جديد. ليس الانتحار سلاحا دفاعيا وإنما هو وهم يضاف إلى العتاد المعتاد في هذا الصراع. إن هذا في حد ذاته يدعو إلى الأسى.)
ليس صعبا علينا اليوم أن نفهم سيكولوجية هؤلاء الكتاب الصهاينة. الكاتبة تعلم جيدا أن الاستشهاد بتفجير عشرات الصهاينة سلاح ماض يبث الرعب في قلب العدو وليس مجرد وهم كما تصفه. ليس أمام الصهاينة سوى واحد من حلين: إما الإبادة التامة للشعب الفلسطيني، وسوف يقابل العالم ذلك في حال حدوثه بنفس الصمت. لكن هذا الحل يعني خسارة مادية هائلة إذ سيضطر اليهود إلى وقف عمليات الابتزاز اليهودي الدولي باستخدام أسطورة الهولوهوكس إذا ما نفذوا عملية هولوكوست حقيقي ضد الفلسطينيين. أما الحل الثاني فهو قبول نموذج يشبه ما حدث بجنوب أفريقيا. لكن الاستمرار في محاولة إرهاب الشعب الفلسطيني الشجاع سوف يسير باليهود إلى النهاية المحتومة وهي الاستيقاظ من وهم الحلم الصهيوني الذي يتحول اليوم إلى كابوس حقيقي ليجدوا أنفسهم في الشتات من جديد بعد أن يلفظهم الفلسطينيون تماما.
كتب ويليام هتون William Hutton مقالا بالأوبزيرفر البريطانية The Observer بتاريخ 7/4/2002 تحت عنوان "زن الأمور بقلبك يا سيد شارون" وضع أعلاه العبارة الرئيسية "إذا لم يبدأ رئيس وزراء إسرائيل في فهم الفلسطينيين – وإلى أن يحدث ذلك – فإن أعماله العسكرية سوف تحبط أغراضها بنفسها." يقول الكاتب:
(إن الكراهية هي أشد سموم العواطف البشرية، فهي تحجب القدرة على الفهم والتعاطف الذي هو محور العلاقات الإنسانية. تحول الكراهية الشخص المكروه إلى مجرد شيء وتسرق من الكاره صفته الآدمية الأساسية وهي الآدمية ذاتها. وهي تفتح الباب خلال ذلك لأن يلحق إنسان بآخر أشد الأفعال قسوة وتعسفا.
إن الصراع بالشرق الأوسط مرعب إلى هذا الحد لأنه مفعم بالكراهية الشديدة. ربما يكون المتفجر الانتحاري أشد الظواهر التي رآها العالم الحديث يأسا وخبثا. انفذ داخل رأس ذلك الانتحاري. إنك يجب أن تكره لدرجة خارقة حتى تكون مستعدا للتضحية بنفسك لكي تفرض الموت على غيرك. إن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تحتضن مثل ذلك الاستعداد يجب أيضا أن تكون على هذا القدر من اليأس. لاشك أن الوعد الديني بالحياة الأبدية بعد الموت يساعد، لكن كل ذلك لا يمكن له وحده أن يفسر مثل تلك الأفعال.
إن المحرك الإضافي هو الكره. فالجالس في هدوء بمطعم مزدحم وحول وسطه حزام المفرقعات يقدم حياته ليأخذ حياة الآخرين. لابد له أن يكره هؤلاء الآخرين وألا يسمح لنفسه بأن تكون لديه ذرة من الاعتراف بآدميتهم أو بأن ما يفعله قد تخطي كل حدود العلاقات الإنسانية وقواعدها. ربما يكون المتفجر قد تلقى تلقينا ذهنيا يزين تلك الكراهية فيشعر بأن تضحيته تتم في سبيل قضية تستحق. لكن الثقافة البيئية التي تسمح بمثل ذلك التلقين الذهني لابد وأن تكون هي ذاتها مغروسة في الكراهية. هذا هو ما تواجهه إسرائيل وهذا هو السبب في أن أفعالها في الأسبوع الماضي تحبط الغرض منها. فهي حبيسة دوامة من الكراهية. إن غضبها من الفلسطينيين وحنقها عليهم يحرمها من آدميتها وقدرتها على استخدام آلتها العسكرية الجبارة لتحقيق الأمن الذي تنشده. إن الغزو المسلح للضفة الغربية مهما كانت درجة نجاحه في العثور على مخازن الأسلحة أو قتل بعض الفلسطينيين بعينهم لن يحقق أمن إسرائيل. إذا ما اعتقد رئيس الوزراء السيد شارون أنه يخلق حركة سياسية تطيح بجيل من الزعماء الفلسطينيين ليحل محلهم جيل آخر يسهل تعامل إسرائيل معه فإنه يكون قد أصابته الكراهية بالجنون فجعلته عاجزا عن تفهم أبسط مشاعر الآخرين. من الطبيعي أن يغتنم عرفات الفرصة ليصبح مرشحا للاستشهاد، ومن الطبيعي أن يضاعف الفلسطينيون جهودهم ليجدوا طريقا يحفظ عليهم شرفهم واحترامهم لذاتهم بعد أن طغى عليهم الشعور بالظلم وقلة الحيلة. سوف يزيد لديهم الكره، وقد تم الآن تفريخ كتائب الجيل التالي من الانتحاريين المتفجرين.
إن أي مخلوق يستطيع تبين ذلك إذا ما كان لديه نذر يسير من الخيال والقدرة على تفهم مشاعر الآخرين. إن استعراض القوة الذي قامت به إسرائيل قد أبدى تناقضا فقلل من أمنها، فالمزيد من الإسرائيليين قد أصبح قلقا يفكر في الهجرة حيث أصبحت الحياة غير سائغة في ظل التهديد الدائم بموت لا يمكن التنبؤ به. وربما أن ذلك سوف يهدد مستقبل الدولة على المدى البعيد. لقد أعمت الكراهية تفكير الإسرائيليين.)
يمضي الكاتب إلى صب جام غضبه على أريل شارون وكيف أعمته الكراهية عن عمل حسابات صحيحة وتقدير سليم لمشاعر وطريقة تفكير الفلسطينيين بأن يضع نفسه مكانهم فيتمكن من تقييم أثر المعاناة على أجيال منفية فقدت أرضها. ثم يستمر الكاتب إلى القول:
(إن الغرب – شاملا ذلك إسرائيل – لن ينال من الإرهاب إلا إذا كان مستعدا للتعاطف مع ما يجري داخل رؤوس الإرهابيين. لقد كانت خطبة بوش الأسبوع الماضي لحظة هامة وعلى قدر كبير من عدم التحفظ حينما أصر على أن تخفف إسرائيل من إذلالها اليومي للفلسطينيين. لقد بدأت الولايات المتحدة في الاعتراف بما ينكره معظم مؤيدي شارون من الإسرائيليين. وهو أن الكره يولد الكره وأن على الطرف الأقوى أن يبدأ كسر الحلقة المفرغة.
لكننا ما زلنا بعيدين تماما عن الوجهة الصحيحة، وخاصة في إسرائيل وفي المناخ السائد في الأوساط الثقافية والسياسية الغربية. العاطفة التي أصبحت نادرة هي الفهم والتعاطف وما تنميه تلك العاطفة من السياسات والمواقف. المحافظون مخدوعون باعتقادهم أن التحفظ أقرب ما يكون إلى الطبيعة البشرية. لكن الحقيقة تختلف كثيرا، فأهم شيء في العلاقات الإنسانية هو القدرة على الفهم والتعاطف وما تطلقه تلك القدرة من مشاعر غريزية تتسع للآخرين لدرجة تستعصي على خيال المحافظين. نحن في حاجة إلى الكثير من تلك العواطف في الشرق الأوسط، والقليل منها في البلاد هنا أيضا لن يضيع سدى.)
الكاتب هنا ليس متباكيا على الفلسطينيين، فهو يبحث الأمر برمته بهدف تأمين إسرائيل ومستقبل إسرائيل. تحركات الولايات المتحدة تأتي في إطار ذلك وكل الخطب والتصريحات والمقابلات والمبعوثين هنا وهناك جزء من سيناريو يهدف إلى إعطاء الوقت لشارون لكي يفتك بالفلسطينيين والتظاهر في نفس الوقت بأنهم يبذلون الجهود للضغط عليه. لو شاء بوش لأعطى أمرا صريحا لشارون بالانسحاب فورا تحت التهديد بوقف السلاح والمعونة، لكن رئيس أكبر دولة في العالم يخاف من إسرائيل ومن رئيس وزرائها لأن بإمكانهم إجلاؤه من البيت الأبيض إما بفضيحة كما فعلوا بكلنتون أو بإسقاطه كما فعلوا بأبيه أو باغتياله كما فعلوا بجون كينيدي الذي سيبقى لغز وفاته في غموض لغز ضربة 11 سبتمبر.
كتب نيك كوهن Nick Cohen في الأوبزرفر البريطانية أيضا بتاريخ 7/4/2002 مقالا ينتقد فيه علاقة بلير وبوش بعنوان "من لديه صديق كهذا .." والعنوان على نسق مثل إنجليزي يقول "من لديه صديق كهذا لا يكون في حاجة إلى أعداء". تقول العبارة الرئيسية البارزة تحت العنوان "تقوم أمريكا بالتفرقة لكي تسود، وهي سياسة قد تحول الأصدقاء إلى أعداء، بما فيهم بلير أفضل أصدقاء بوش." يقول الكاتب:
(لا أحتاج إلى فطنة شديدة لكي أتكهن بأن توني بلير لن ينفرد ببوش في مزرعته ثم يطلب منه أن يخبره – فيما بينهما كرؤساء دول – لماذا تتدخل أمريكا في الشرق الأوسط. لا ضرورة للسؤال لأن الإجابة واضحة تماما ولا تستحق الجهد. أمريكا تحافظ على الملوك الأصوليين لأنها تريد نفطهم. اليساريون يرون أن السياسة الأمريكية هي الاستعمار الجديد، ويرى المحافظون الواقعيون أن تلك السياسة هي ما يجب على أي قوة عظمى أن تتبعه للحفاظ على مورد هام.
هذا التفكير المنطقي البسيط يعكره تأييد إسرائيل التي لا تملك نفطا وهي عدوة للعرب المنتجين للنفط. لكن ذلك يمكن تفسيره وتنحيته جانبا كحالة شاذة خلقها النفوذ الهائل للوبي اليهودي في واشنطون. تبقى الصورة الكبيرة واضحة بعد ذلك. لماذا هوجمت أمريكا؟ لماذا ستسوق بريطانيا إلى حرب لا ضرورة لها مع العراق؟ إنه البترول أيها الغبي. أي إنسان يعلم ذلك حتى لو كان له من العقل نصفه.
كما يحدث كثيرا في السياسة الواقعية، تجد أن النقاشات العليمة من الشمال واليمين لا ترتكز على أساس من الواقع. أمريكا تحصل على معظم نفطها من الأمريكتين وكندا والمكسيك وفنزويلا والولايات المتحدة نفسها. لا يأتي من الخليج الفارسي سوى ربع هذا النفط. إذا ما وجدت أمريكا مصدرا آخر للنفط مثل روسيا أو إذا ما تم ترشيد حرقها للطاقة فإنها لا تكون في حاجة إلى الانشغال بالشرق الأوسط. لكن أمريكا لن تنسحب، فواشنطون تود "عدم تشجيع الدول الصناعية المتقدمة على تحدي زعامتنا، بينما نحافظ على سيادة عسكرية قادرة على منع المنافسين من مجرد التطلع إلى دور إقليمي أو عالمي أكبر." ليست هذه الكلمات ثرثرة لنظرية مؤامرة وإنما هي من " دليل تخطيط الدفاع" الذي خطط استراتيجية الدفاع الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. لقد تم تسريب مسودته لجريدة النيويورك تايمز في 1992. فزع البيروقراطيون بوزارة الدفاع حينئذ لأن المسودة على حد تعبيرهم لم يتم "تنظيفها". ويقصدون بذلك أن اللغة الصريحة المكتوبة للاستهلاك الخاص لم يتم استبدالها بغطاء من التعبيرات الدالة التي يتم توليفها بحرص لتجنب أي عبارات تبقى في ذهن القارئ. أوضح هذا التسريب بجلاء شديد فكر البعض في مؤسسة واشنطون. إذا لم يسود الاستقرار أمريكا – وهذا تعبير لا يبدو مناسبا في هذا الوقت – فإن الشرق الأوسط وأوربا واليابان والصين الذين يعتمدون على نفط الخليج بدرجة أكبر قد يتحركون لحماية مصالحهم. ورغم أن تدخلهم قد لا يضايق أمريكا إلا أنهم قد ينمون ويتحولون في المدى البعيد إلى قوى قد تتحدى سلطتها.)
يمضي الكاتب في مقاله المطول مضيفا المزيد عن عدم رغبة أمريكا في ظهور قوى عظمى سواها وكيف أنها يمكن أن تنقلب على أصدقائها إذا ما بدرت منهم نية المنافسة إلى أن يختتم مقاله بقوله:
(إن نفس المنطق الذي يستخدمه "دليل تخطيط الدفاع" - لكي يتخيل عالما تلعب فيه أمريكا دور الراشد الوحيد - يسمح بازدواجية المعايير، مما أدى إلى تدمير السلطة الأخلاقية التي اكتسبتها أمريكا بعد 11 سبتمبر. كيف يمكن لأمريكا وبريطانيا إعلان الحرب على العراق لامتلاكها أسلحة الدمار الشامل بينما لا تقبل أمريكا أي تحكم في أسلحتها النووية والكيميائية والبيولوجية؟ كيف يمكن لأمريكا القول بأن صدام حسين مجرم حرب إذا ما كانت ترفض السلطة القضائية لمحكمة جنائية دولية؟
إن التوتر الذي تخلقه فوضى التفرد الأمريكي يصل أقصاه بين الصفوة العالمية. لا توجد مشكلة لدى زعماء الدول الأوربية فيما يتعلق بالعولمة، لكنهم لا يستسيغون انفراد بوش بفرض تعريفة جمركية على الصلب، وهو أمر يجعل من "السوق الحرة" – التي تأمر أمريكا وأوربا دول العالم الثالث بها – كلاما فارغا. لقد سعوا جميعا ورجوا أمريكا دون جدوى أن تسمح لهم بدور صغير في "الحرب" على الإرهاب. إن رفض قبولهم يضعهم في نفس الكفة مؤقتا مع فقراء العالم، وهذا قد أدهش الجميع إلى حد ما. إن ما قد يثير القلق الشديد لدى أي صديق لأمريكا هو إصرارها على ألا تترك أي جزء من العالم وشأنه، وكيف أن ذلك قد خلق عداوة لأمريكا، ليس في البلاد الإسلامية فحسب وإنما في مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية التي لا يعنيها في شيء فقه بن لادن. إذا كنت تحلم بأن الجميع أعداء لك فإن اليوم الذي يصبحون فيه أعداء لك قد يأتي بالفعل.)
كتب جورج مونبيوت George Monbiot مقالا في الجارديان بتاريخ 9/4/2002 بعنوان "من البنك الدولي إلى الضفة الغربية" عن جماعات السلام الموجودة بفلسطين ونشأتها وعلاقتها بجماعات الاحتجاج الدولية التي ذاع صيتها في احتجاجات سييتل. إليك ترجمة المقال كاملا:
(يوجد في الضفة الغربية نوعان من الدروع الآدمية، النوع الأول لاإرادي يتمثل في الرهائن التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، مثله في ذلك مثل بعض المجموعات الإرهابية التي حاربها. يقوم الجنود بدفع الرهائن من الفلسطينيين المدنيين عبر أبواب المباني المشكوك بأمرها فإذا شاء المسلحون الذين قد تأويهم تلك البنايات القتال كان عليهم أولا أن يقتلوا الرهائن.
أما النوع الثاني من الدروع البشرية فهو نوع يضع نفسه في خط النار عامدا. فمنذ بدأت الحملة العسكرية على الضفة الغربية سعى المئات من دعاة السلام الإسرائيليين والنشطاء الأجانب إلى وضع أنفسهم في طريقها. لقد سعى أعضاء جماعة "حركة التضامن العالمية International Solidarity Movement" إلى حماية المدنيين معرضين أنفسهم لخطر شديد فجعلوا من أنفسهم رهائن. إن في ذلك بيان لشجاعة فائقة وتضحية بالنفس. إنه إحياء جديد لحركة اعتبرت ميتة منذ أشهر قليلة.
إن الحركة التي ينتمي إليها الكثيرون من نشطاء السلام ويخاطرون بحياتهم من أجلها في رام الله وبيت لحم هي حركة بدون اسم. قال عنها البعض أنها حركة مضادة للعولمة أو حركة مضادة للشركات الضخمة أو حركة مضادة للرأسمالية. ولكن أعضاء تلك الحركة جعلوا وضعهم في فئة معينة مستحيلا لأنهم وضعوا الجانب العملي دائما في المقام الأول والجانب النظري في المقام الثاني. فكلما بدا أنهم قد اتخذوا لأنفسهم هوية - يعتقد الآخرون أن بإمكانهم تمييزها - تطوروا إلى شيء آخر. إن هذه الحركة يدفعها نوع جديد من سياسة الاستجابة ولا تحكم الأيديولوجية علمها ومعرفتها وإنما تحكمها الحاجة.
هذا الشيء الذي لا يحمل اسما بدا في أعقاب 11 سبتمبر كما لو كان قد اختفى بنفس السرعة التي ظهر بها. فالمظاهرات الضخمة التي تم التخطيط للقيام بها في واشنطون في نهاية شهر سبتمبر ضد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تحولت إلى مسيرة خجولة صغيرة من أجل السلام. انحنى معظم النشطاء الأمريكيين وطأطئوا رؤوسهم أمام المكارثية الجديدة التي سادت الخطاب الأمريكي منذ الهجوم على نيويورك. وقال المعلقون عنهم أنهم ظاهرة مضت وانقضت بعد أن تخللت شباب العالم كموجات طفيفة متتالية مرت ثم عادت.
لكن هؤلاء الذين أهملوا شأنها قد فشلوا في تفهم جدية نواياها ومدى تأييدها. كانت كاميرات التلفاز تركز دائما على بضع مئات من الشباب الثائر في فوضى بملابسهم السوداء، يمتزجون أحيانا مع كرنفال الاحتجاج الأوسع. لكنهم نادرا ما سمحوا لهؤلاء المشتركين بشرح الدافع الذي يحركهم. لذلك فإن معظم من كان خارج تلك الحركة قد فشل في تقدير مدى تفاني وإصرار الكثيرين من المشاركين في تلك الاحتجاجات. إن قدرة تلك الحركة على البقاء تعادل قدرة الحكومات والشركات الكبرى التي تواجهها. وبقاء هذه الحركة يؤكده قدرتها على أن تشكل نفسها بما تمليه الحاجة إليها، ففي الشهر الماضي سافر 250 ألف محتج إلى برشلونه لتحدي الهجوم على قوانين العمل والقطاع العام الذي قاده توني بلير وسيلفيو برلسكوني وجوسي ماريا أزنار. وتحرك جزء منهم هذا الشهر إلى فلسطين ومن بينهم مجموعة بريطانية كان بعض أفرادها قد ساعد في إجراء الحملة ضد نفوذ الشركات الكبرى والهندسة الوراثية وتغير المناخ، وقد لحق بهم هذا الأسبوع أعضاء من المنظمة الإيطالية "يا باستا Ya Basta" التي ساعدت في تنظيم الاحتجاجات في جنوا. إن المنظمة التي بلغت عنفوانها في سييتل وكذلك المشاركون في احتجاجات البنك الدولي والضفة الغربية ينتمون جميعا إلى نفس الأرضية السياسية.
لو كان المحتجون يتحركون كجمع من الدهماء من مكان لآخر لكانت جهودهم عديمة الجدوى، لكن هذه الجماعة التي تزداد خبرتها سريعا قد تلقنت درسا أساسيا هو أن الاحتجاج يكون فعالا عندما يستمر بناؤه فوق خبرة المتخصصين. أصبح الأجانب في الضفة الغربية مرئيين عندما بدءوا ينزفون مثل باقي سكان الأرض ، فقد جرح خمسة بريطانيين من أفراد الحملة برصاص الجيش الإسرائيلي الذي استخدم القذائف الانشطارية المحرمة دوليا. كان بعض هؤلاء الغرباء يعملون هناك منذ عشرات السنين. لذلك فإن من وصلوا حديثا قد وجدوا شبكات مؤسسة انضموا إليها وأطاعوا تعليماتها. وبين الرصاص والجرافات تبينت في تلك الحركة شجاعة كانت متوقعة منذ وقت طويل ولم توضع في محك الاختبار إلا نادرا.
تحرك هؤلاء المحتجين إلى البيوت المهددة من الجيش الإسرائيلي بالتدمير لكي لا يتمكن الجنود من مهاجمة الفلسطينيين دون مهاجمة الأجانب. وجلسوا في سيارات الإسعاف ليأخذوا المرضى والجرحى إلى المستشفى، على أمل الإسراع بتمريرهم من نقاط التفتيش الإسرائيلية ولمنع الجنود من ضربهم. وحاولوا نقل قوافل الطعام والأدوية إلى المناطق المحرومة من الإمدادات. وحاولوا تشجيع الجانبين على وضع السلاح جانبا ومحاولة استخدام الحلول البعيدة عن العنف. لقد أصبحوا نوعا من الأمم المتحدة الأولية يحاولون بإمكانياتهم الضئيلة المحافظة على الوعود التي نكصت عنها حكوماتهم.
ربما كان أهم شيء هو أن دعاة السلام هم الشهود الأجانب الوحيدون في بعض الأماكن التي ارتكبت فيها مجازر. كان لهم الفضل في لفت الأنظار إلى أحداث فاتت معظم الصحفيين وذلك عن طريق شبكات الإعلام البديل مثل إنديميديا Indymedia وأولسورتس Allsorts ( مواقع على الإنترنيت الموقع الأول منها عنوانه هو http://urbana,indymedia.org/active/news" )
لقد رأوا بأعينهم كيف يعلن الجيش الإسرائيلي عن رفع حظر التجول فإذا ما خرج الفلسطينيون من بيوتهم أطلقوا عليهم النار أو اعتقلوهم لاستخدامهم كدروع بشرية. لقد رأوا التدمير المتعمد لمخزون الناس من الغذاء. لقد رأوا سيارات الإسعاف والإغاثة توقف ثم تداس. لقد شاهد أحد دعاة السلام الجنود الإسرائيليين يوم 28 مارس في سيارات الجيب يصيدون النساء والأطفال الفارين عبر الحقول المتاخمة لرام الله محاولين قتلهم غدرا بالرصاص. وحينما يصبح دعاة السلام الأجانب أنفسهم هدفا للإسرائيليين فيضربون وتطلق عليهم النار فإنهم يجلبون الأخبار إلى بلادهم لمن كان متشككا في صحة ما يحدث للسكان المدنيين المحليين من قتل وإصابات بالعجز.
إن وصول الحركة إلى الضفة الغربية هو تطوير عملي لنشاطاتها في أماكن أخرى. لقد تحدت الحركة السياسات الخارجية المدمرة لأقوى حكومات العالم والفشل الناجم عن قيام المؤسسات متعددة الأطراف بمحاولة احتوائها. يقوم المحتجون بتوجيه خطابهم إلى هؤلاء الذين يمتلكون القوة الحقيقية وهم إسرائيل والحكومات التي تمولها بالمال والسلاح وتسمح لها باحتلال الضفة الغربية، بدلا من ترديد مطالب المعلقين الهادرة العقيمة على جانبي الأطلنطي بضرورة قيام ياسر عرفات بالقضاء على العنف في الشرق الأوسط وهو الرجل الذي لا يستطيع الآن استخدام مرحاض لقضاء الحاجة.
كانت الحركة دائما عملية وواقعية مستعدة للاحتجاج على معاملة بورما Burma لقبائلها أو سلب الصين لأهل التبت مثلما تحتج على أسلوب صندوق النقد الدولي في التعامل مع الأرجنتين. وفي فلسطين أو في أي مكان آخر تسعى الحركة إلى الوقوف بين القوة الغاشمة والمضارين منها. وبينما تكثر من الجميع الأقوال عن ضرورة قيام جهة ما بعمل ما بخصوص الصراع في الشرق الأوسط، فإن دعاة السلام يقومون بالأفعال.)
في تعليق نشرته لوس أنجيليس تايمز Los Angeles Times في 11/4/2002 تحت عنوان "ربما يصدمنا الانتحاريون المتفجرون لكن الموت في سبيل القضية ليس جديدا" حاول الكاتب جيمس بنكرتون James Pinkerton فهم ظاهرة الاستشهادي المتفجر فيصف انطباعات الأمريكيين ومحاولة إقحام العامل الديني ثم يتطرق إلى الجانب العملي فيقول:
(بينما يتأمل الأمريكيون جذور الاستشهاد القاتل محاولين البحث عن تفسير يلائم ملاحظاتهم عن الدين وسيكولوجية العالم الثالث يبدو أن الفلسطينيين أقل انشغالا بالإلهام الروحي وأكثر اهتماما بالجانب العملي والابتكار والتجديد العسكري. ويبدو أنهم قد نجحوا.)
ويقول الكاتب في موضع آخر:
(إن الحرب منافسة داروينية <نسبة إلى نظرية شارلس دارون عن التطور> في أعتى درجاتها، إما أن تتطور أو أن تخسر. وبينما يحتفظ الفلسطينيون بالانتحاريين المتفجرين في ترسانتهم فإنهم يطورون وسائل تكتيكية جديدة. نسفوا في شهر فبراير الماضي دبابتين إسرائيليتين مستخدمين الألغام وأطلقوا صواريخا شديدة الانفجار على أهداف إسرائيلية. <تجنب الكاتب اليهودي ذكر المستوطنات> وفي الثالث من شهر مارس قام قناص منفرد بقتل 10 إسرائيليين بينهم 7 جنود عند نقطة تفتيش بالضفة الغربية وتمكن من الهرب. وفي يوم الثلاثاء الماضي قتل الفلسطينيون 13 إسرائيلي بالضفة الغربية في كمين للمتفجرات.
ألحق الإسرائيليون بالفلسطينيين خسائر أكبر كثيرا بطبيعة الحال، لكن الفلسطينيين مستعدين على ما يبدو لتحمل أي ثمن بينما يرفعون من الثمن الذي يدفعه عدوهم. إنهم يعتقدون أن الإسرائيليين سوف تجهدهم خسائرهم فيتركون الضفة الغربية عن قريب، ويبدو أن احتمال أنهم على صواب يفوق احتمال الخطأ.)
نشرت جريدة إندبندنت The Independent البريطانية في 12/4/2002 مقالا لمراسلها جستن هجلر Justin Huggler من جنين تحت عنوان " وأخيرا أمكن للعالم أن يلقي نظرة سريعة على دمار معسكر اللاجئين". أقتطف الآتي من تقرير المراسل:
(هنا بين هذا الحطام كان المئات من المدنيين الفلسطينيين المذعورين محبوسين داخل بيوتهم بينما تصب المروحيات الإسرائيلية صواريخها من حولهم. كان الجرحى ينزفون وسيارات الإسعاف ممنوعة من معالجتهم. كان من قبض الإسرائيليون عليهم يجبرون على خلع ملابسهم أمام عائلاتهم. هنا حارب الفلسطينيون لتسعة أيام وليس معهم سوى البنادق. هنا اعترف الجيش الإسرائيلي بقتل مائة فلسطيني. ومن بين البؤس والإذلال والموت في مخيم جنين يقوم الفلسطينيون بصنع معجزة، فقد خرج بالأمس صبي في الثالثة عشر مترنحا من تحت الركام. من المذهل أنه كان واحدا من آخر مجموعة من المحاربين الذين صمدوا ضد المروحيات والدبابات. لقد انتشرت قصته من فلسطيني إلى فلسطيني وكيف أن الصبي ابن الثلاثة عشر كان يحارب لأن أباه قتل وهو يحارب القوات الإسرائيلية عندما دخلت المخيم في شهر مارس وكيف أن الفلسطينيين أخذوا يقذفون الجنود الإسرائيليين بالحجارة عندما نفذت منهم الذخيرة.)
بهذا أصل إلى ختام حلقة هذا الأسبوع وأعتذر عن الإطالة. أتوجه بالشكر والعرفان لكل من أرسل رسائل إلكترونية وأعتذر عن الردود الخاصة ، وإلى اللقاء .
(15)
من أقوال الصحف العالمية
ترجمة وعرض: محمد عبد اللطيف حجازي
mehegazi@yahoo.com
19/04/2002
كتب فل ريفز Phil Reeves مراسل الإندبندنت البريطانية من جنين في 17/4/2002 تحت عنوان " الأحياء الحزانى يقولون أن الإسرائيليين دفنوا جرائم حربهم تحت أكوام الركام الذي تفوح رائحته":
(كان "جمال فايد" يحوم حول الكومة الهائلة من البقايا التي تفوح روائحها، حيث قام الإسرائيليون بدفن جرائم الحرب بمخيم اللاجئين في جنين. كان هزيلا مرهقا يعذبه القلق على عائلته الغائبة.
السيد "فايد" فلسطيني يعمل مدرسا للعلوم وكانت آخر مرة شاهد فيها زوجته وولديه ماجد الذي يبلغ من العمر ثمان سنوات وأحمد ذو الست سنوات هي في أعقاب الغزو الإسرائيلي منذ أسبوعين. كان قد أخطر عائلته بضرورة مغادرة المنزل إذ كان يخشى أن تبدأ الدبابة الإسرائيلية القريبة قصفه، وتخلف هو خوفا من أنه إذا ما صاحبهم اعتقد الإسرائيليون أنه أحد المحاربين فيفتحون عليهم النار. قال السيد فايد "ربما قد توجهوا إلى قرية أخرى، أنا لا أعرف أين ذهبوا." كان يقف وسط التراب الذي كان بناية سكنية كبيرة فحولها القصف الإسرائيلي والجرافات إلى خراب تفوح منه رائحة الجثث المتحللة بأسفله. وقريبا منه كان بعض النسوة العجائز يفتشن بين الحطام في محاولة لإنقاذ البقايا الضئيلة المحطمة من حياتهن.
يبدأ عمال الإغاثة الدولية عملهم الصعب لتحديد أعداد القتلى في ذلك المخيم من جراء تلك العملية التي أسماها الإسرائيليون بعملية مقاومة الإرهاب وكانت نوبة طويلة من القتال انتهت بقيام الجيش الإسرائيلي بإزالة مئات المساكن بالجرافات. يقول شهود عيان أن المساكن كانت مأهولة بالمدنيين. وتقول وكالات الأمم المتحدة والصليب الأحمر أنهم يقابلون أعدادا متفاقمة من اللاجئين الذين يفتقدون أقاربهم.
حينما وصل عمال الإغاثة الدوليين إلى المنطقة المدمرة من المخيم كان رد فعلهم هو الذهول والغضب البالغ. لقد تم تدمير مساحة ضخمة يبلغ عرضها حوالي ثلث ميل، سويت بالأرض تماما. وهناك أيضا العديد من البيوت المدمرة جزئيا بفعل القتال العنيف الذي شمل القصف بصواريخ المروحيات الإسرائيلية فأصبحت تلك البيوت غير صالحة للسكنى. وصف أحد المسئولين المنظر بأنه " لا يمكن تصديقه على الإطلاق" وبأنه "كارثة إنسانية."
قال أحد كبار الرسميين من الأمم المتحدة أن "المسئولية تقع بالتأكيد على عاتق دولة إسرائيل لتحديد ما حدث لآلاف اللاجئين المفقودين الذين كانوا يعيشون بالمخيم حتى أسابيع قليلة، إذا ما وضعنا في الاعتبار ذلك الرفض المشين غير المسبوق للسماح لمؤسسات الإغاثة الدولية بدخول المخيم عندما كان الناس يموتون بين الأنقاض موتا بطيئا من أثر العطش والإصابة. لم أقابل أحدا من المجتمع الدولي لديه تفسير آخر لهذا الرفض سوى الحقيقة القائلة بأنهم كانوا يخفون جريمة حرب، أو جريمتي حرب في الواقع هما القتل الجماعي ورفض الإغاثة الإنسانية."
دعا نبيل شعث الوزير الفلسطيني للتخطيط والتعاون الدولي إلى عمل بحث استفساري شامل في "مذبحة" جنين. ودعت منظمة العفو الدولية إلى عمل تحقيق موسع بمعرفة مجلس الأمن. وقالت متحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن المخيم "يبدو كما لو كان قد أصيب بزلزال." وبعد أن منع الصليب الأحمر من دخول المخيم لمدة أسبوع تمكن أحد عماله من إنقاذ جريح مصاب بإصابات بالغة كان محجوزا تحت الأنقاض. وقال عمال الإغاثة أنه يبدو أن الإسرائيليين لم يبذلوا أي جهد في استخدام أجهزة الاستشعار الحراري أو الكلاب للبحث عن أحياء.
قام محققوا منظمة العفو الدولية بجمع عشرات من تقارير الشهود على ما حدث في جنين في الأسبوعين الماضيين. قال الشهود أنهم رأوا الجثث تدفن في مقابر فردية وادعى أحدهم أنه شاهد الإسرائيليين يدفنون 32 جثة في خندق. وقام المحققون أيضا بعمل مقابلات مع عديد اللاجئين الذين فروا من المعسكر بعد إزالة بيوتهم. قال السيد دريك باوندر Derrick Pounder أستاذ الطب الشرعي بجامعة دندي Dundee University والذي يعمل ضمن فريق منظمة العفو أن "هناك نموذج متكرر من الأدلة المقبولة" من الشهود أن المقيمين بالمنازل المجرفة لم يتم إنذارهم "وكان الإنذار الوحيد هو انهيار بيوتهم."
يعتقد الأستاذ باوندر الذي عمل في سراييفو وكوسوفو أن الأساليب الإسرائيلية تعني لا محالة عددا هائلا من الموتى المدنيين. واستطرد قائلا "سيتم العثور على تلك الجثث إن عاجلا أو آجلا وسوف تتضح الحقائق بجلاء."
سوف تقوم وكالة الأمم المتحدة لشئون اللاجئين الفلسطينيين UNRWA بإعادة تسجيل كل اللاجئين الأحياء ثم تطابق أسماءهم على القائمة السابقة التي تشمل 13 ألف مقيم بالمخيم على أمل التمكن من حصر أعداد الموتى. لكن ذلك قد يستغرق شهورا. هناك آلاف المفقودين وإن كان من الجائز أن يكون الكثيرون منهم قد فروا إلى القرى المجاورة. تم القبض على مئات من الرجال الذين يعتقد أنهم الآن تحت الحجز الإسرائيلي.)
أما صحيفة برافدا الروسية فقد نشرت في طبعتها الإنجليزية مقالا لكاتبها تيموثي بانكروفت هنشي Timothy Bancroft-Hinchey بتاريخ 17/4/2002 تحت عنوان "جيش الدفاع الإسرائيلي: في سبيل الله!":
(دخل الصحفيون العالميون أخيرا مخيم اللاجئين في جنين حيث بدأت قصص الرعب الهائل في التطرق إلى الإعلام العالمي. ليست هذه دعاية فلسطينية، وإنما هي قصص يرويه صحفيون متمرسون ومعروفون.
سمحوا لامرأة فلسطينية بدخول المخيم بعد أن دارت شاردة حوله لثلاثة أيام وثلاث ليال، فأمسكت بجثة كانت يوما طفلها. لفت بقاياه المتفحمة في خرقة بيضاء وضمتها إلى صدرها وأخذت تهدهده وتلف يديه حولها. لقد قتل حينما دمرت دبابة إسرائيلية بيتهما وهي تشق طريقها خلاله.
لقد شقت الدبابات والجرافات في وقاحة طرقا لها فوق البيوت دون رحمة أو شفقة بالمدنيين الذين وقعوا في خط النار بين جيش الدفاع الإسرائيلي والإرهابيين الفلسطينيين. ليس هناك شك في أن هؤلاء الإرهابيين عاشوا في جنين وعملوا منها، لكن الإسرائيليين عاملوا الجميع على حد سواء فقتلوا مع الإرهابيين أطفالا ونساء وشيوخا.
القصة تحكيها أكوام الحطام وأسياخ الحديد الملتوية فيما كان يوما بيوتا فلسطينية، وتحكيها أيضا تلك التقارير عن الرائحة النتنة التي تفوح من اللحم البشري المتعفن. فحينما جرفت البيوت لم يسأل أحد عمن كان بداخلها. ومرت الدبابات والجرافات فوق الجثث مرارا.
"دخل الجنود الإسرائيليون بيوتنا ففتشونا وأحرقوا كل شيء." يدعم الصحفيون تلك الادعاءات في كتاباتهم. لقد تركت مروحيات الأباتشي التي توردها الولايات المتحدة آثارها في جنين، فبيوت المدنيين عليها الدليل البين لآثار المدفعية الثقيلة. معظم من هو دون الخمسين من الرجال إما ميت أو محتجز في معسكرات الاعتقال في ثلاث قرى حول جنين.
هناك أيضا في رام الله 300 محتجز من هذا القبيل، وقد رأى الصحفيون معاصمهم التي مزقتها الأساور البلاستيكية التي ربطوهم بها قسرا. كانوا يربطون ويرغمون على التمدد لساعات طويلة دون زاد أو ماء، والجريح منهم لا يجد إسعافا. كان بعضهم من الإرهابيين بينما لم يكن معظمهم كذلك. لكنهم جميعا تلقوا نفس المعاملة.
"لقد أخذ الجنود معظم الجثث بعيدا قبل وصول الصليب الأحمر، كانوا جميعا من المدنيين ولم يكن بينهم أحد هنا من المليشيا. لم يحذرونا. وصلوا فأخذوا كل شيء وجرفوا بيوتنا."
سرعان ما جاء جنود جيش الدفاع الإسرائيلي وأمروا الصحفيين بالانصراف. أراهم الفلسطينيون كيف يخبئون ما كتبوا والذي كان من الجائز مصادرته. بدأت أولى الصور المفجعة في الظهور بالصحافة العالمية. تحكي تلك الصور قصتها بنفسها.)
تم لأول مرة هزيمة محاولة أمريكية لتدبير انقلاب يجلب إلى الحكم بدولة ما كلبا مطيعا من النوع "الولف" الذي عرفناه وألفناه ببلادنا على مدى نصف القرن. هي سابقة تاريخية تدل على أن هناك شعوبا تستحق الحياة. لقد خلع شعب فنزويلا ذلك الإمعة الذي أرادت أمريكا فرضه، وأعادت الرئيس المخلوع إلى الحكم خلال أيام قليلة.
عن هذا الأمر كتب مراسلي الجارديان البريطانية جوليان بورجر Julian Borger في واشنطون وأليكس بيلوس Alex Bellos في أمريكا الجنوبية بتاريخ 17/4/2002 تحت عنوان " الولايات المتحدة أعطت إيماءة الموافقة لانقلاب فنزويلا. يقول التقرير:
(كانت إدارة بوش تحت الفحص الشديد يوم أمس بسبب دورها في الانقلاب الفاشل في فنزويلا في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. لقد اعترفت الإدارة بأن بعض الإداريين الأمريكيين قد عقدوا عددا من الاجتماعات في الأشهر الأخيرة مع بعض ضباط الجيش وناشطي المعارضة من فنزويلا.
أيد البيت الأبيض يوم أمس أن بعض الرسميين من الإدارة الأمريكية قاموا قبل محاولة الانقلاب ببضعة أسابيع بمقابلة بدرو كارمونا Pedro Carmona التجاري الكبير الذي تولى الحكومة الانتقالية بعد القبض على الرئيس هيوجو شافيز Hugo Chavez يوم الجمعة الماضي. لكن السكرتير الصحفي للبيت الأبيض آري فليتشر Ari Fleischer أنكر أن الولايات المتحدة قدمت أي مساعدة على قلب نظام الحكم.
أكدت وزارة الدفاع الأمريكية أن رئيس الأركان الفنزويلي الجنرال لوكاس روميرو رينكون Lucas Romero Rincon قد زار البنتاجون في شهر ديسمبر الماضي وقابل مساعد وزير الدفاع لشئون نصف الكرة الغربي روجي باردو موري Roger Pardo-Maurer.
صرح البنتاجون "لقد قلنا بوضوح شديد أن نوايا الولايات المتحدة هي دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وأننا لا يمكن مطلقا أن نؤيد الانقلابات أو الأنشطة غير الدستورية."
على أي حال لم يكن واضحا لماذا فتحت المحادثات موضوع الانقلاب قبل وقوعه بأربعة أشهر. قال السيد فليتشر أن فتح موضوع الانقلاب في الاجتماعات مع زعماء المعارضة الفنزويلية كان بسبب أن الدبلوماسيين الأمريكيين في كاراكاس كانوا قد التقطوا إشاعات عن الانقلاب "خلال الأشهر الماضية." وأضاف "لقد أخبروا زعماء المعارضة بوضوح خلال المحادثات التي عقدوها أن الولايات المتحدة لن تؤيد انقلابا.")
يمضي المقال شارحا أنه رغم نفي الولايات المتحدة للتدخل في الأمر إلا أنها على عكس دول جوار فنزويلا أعلنت تأييدها لحكومة الانقلاب الجديدة في حين أدانت دول الجوار ذلك الانقلاب. على أي حال كان أهم ما حدث هو كيف أن الشعب أعاد الرئيس المخلوع رغم أنف أمريكا، وهي سابقة ربما تهتز لها عروش وكراسي بالمنطقة العربية لهؤلاء الذين يعتقدون أن التأييد الأمريكي وحماية وكالة المخابرات المركزية تقيهم غضبة الشعوب إذا ما نفذ منها الصبر.
روبرت فسك Robert Fisk هو ذلك الصحفي الإنجليزي الذي نعرفه جيدا في الأوساط العربية وقد عاش طويلا بيننا وتأثر بنا إلى درجة أنه قد أوشك أن يصبح سفيرا لنا بين الدول الناطقة بالإنجليزية. نشر فسك في 17/4/2002 مقالا طويلا جدا في الإندبندنت يحكي فيه عن جولة له بعدة مدن أمريكية زار فيها عددا من الجامعات وألقى محاضرات عامة أجاب في نهايتها على أسئلة الحضور من مختلف الأعمار.
يبدي فسك تفاؤلا شديدا من أن الرأي العام الأمريكي في مرحلة تطور سياسي قد يلفظ في النهاية ذلك الأثر المدمر للإعلام المضلل. لكن هذا التحول الذي يحكي عنه فسك قد يكون فقط بين الأوساط المثقفة الواعية التي سمحت ظروفه بالاحتكاك بها. الشخص الذي يهتم بحضور محاضرة عامة تناقش أمرا سياسيا ليس هو الأمريكي العادي الذي تمسح الدعاية الصهيونية دماغه يوميا، بل هو غالبا شخص واع ليس في حاجة ماسة إلى مزيد من التوعية.
كان مقال فسك تحت عنوان "الخوف والمعرفة في أمريكا" وقدمت له الجريدة بالعبارة: " توقع فسك استقبالا معاديا حينما زار أمريكا بعد 11 سبتمبر فهو مجاهر بانتقاد السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط، لكن توقعه هذا كان أبعد ما يكون عن الصواب." المقال طويل جدا وأجدني مضطرا إلى الاكتفاء باقتطاف بعض أجزائه. يقول فسك في أحد المواضع:
(لقد تكرر سفري إلى الولايات المتحدة لسنوات عدة حيث ألقي محاضرات في برنستون أو هارفارد أو جامعة براون أو رود أيلاند أو سان فرانسسكو أو ماديسون في وسكونسن. يعلم الله لماذا، فأنا أرفض الأجر بأشكاله ولا آخذ سوى تذكرة سفر دائرية من بيروت بالدرجة التجارية لأنني لا أستطيع تحمل صياح الأطفال 14 ساعة في الذهاب وأخرى في العودة. طلبة الكليات في أمريكا يتصفون بالصلابة والملل الشديد وفي بعض المدن وعلى رأسها واشنطون لن تجذب انتباههم إلا إذا استخدمت عبارات مثل "عملية السلام" أو "العودة إلى المسار" أو "إسرائيل تحت الحصار". هناك نوع من الإنغلاق المبرمج على وجوه الحضور. هو فشل ذريع لي دائما، فلماذا تكون رحلتي هذه مختلفة عن سابقاتها؟)
يستطرد فسك في موضع آخر:
(قالت لي سيدة يهودية " لقد كتبت تقريرا لإحدى الصحف الرئيسية عن الفرار الجماعي للفلسطينيين في 1948، وذكرت طبعا مذبحة الفلسطينيين في دير ياسين التي قامت بها عصابة شتيرن وغيرها من الجماعات اليهودية، تلك المجزرة التي دفعت 750 ألف فلسطيني إلى الفرار من بيوتهم. تفحصت قصتي بالجريدة فماذا وجدت؟ لقد أضافوا إلى كلمة "المذبحة" صفة "المزعومة". طلبت الجريدة وقلت لهم أن مذبحة دير ياسين حقيقة تاريخية لكن الرد جاء بأن المحرر فعل ذلك لكي يتجنب العديد من رسائل الانتقاد."
كان ذلك بمحض الصدفة هو موضوع محاضراتي وكلماتي، ذلك الجبن والتخاذل وانتقاص الحقائق الذي يخيم على الصحفيين الأمريكيين عند الحديث عن الشرق الأوسط. كيف أن تقاريرهم تحول "المناطق المحتلة" إلى "المناطق المختلف عليها" وكيف تتحول "مستعمرات الاستيطان اليهودية settlements" إلى "أحياء الجيرة اليهودية neighbourhoods" وكيف يصبح المسلحين المتشددين من الفلسطينيين "إرهابيين" والمسلحين المتشددين من اليهود "متعصبين" أو "متطرفين" فقط. وأريل شارون ذلك الرجل الذي قال عنه التحقيق الإسرائيلي في 1982 أنه "المسئول شخصيا" عن مذبحة صابرا وشاتيلا التي قتل فيها 1700 فلسطيني، كيف يصفه تقرير في النيويورك تايمز بأن له حاسة "المحارب". وكيف أن إعدام المحاربين الفلسطينيين الأحياء يوصف بأنه "عملية تنظيف". وكيف أن المدنيين الفلسطينيين الذين يقتلهم الجنود الإسرائيليين كانوا دائما ضحايا "الوقوع في خط تبادل النيران". كنت أطلب من المستمعين إجابة توقعت أن تكون الاستياء والاحتقار الأمريكي المعهود عن كيف يتقبل المواطن الأمريكي السياسات الصبيانية لرئيسهم من قبيل "حيا أو ميتا" أو " معنا أو ضدنا" أو "محور الشر". وصدمت لأول مرة خلال عقد كامل من محاضراتي بالولايات المتحدة. ليس بالسلبية الأمريكية أو القبول التام بوطنية للنظرة القائلة بأن الرئيس أعرف بالمصلحة أو بالانطواء الخطير على النفس الذي أصاب أمريكا بعد 11 سبتمبر أو الخوف البالغ الدائم من انتقاد إسرائيل، إنما الذي أذهلني هو ذلك الرفض الغريب الجديد للخط الرسمي، ذلك الوعي المتنامي الغاضب لدي الأمريكيين بأنهم يتم خداعهم والكذب عليهم. كان 60% من الحضور ببعض محاضراتي فوق الأربعين. وكان 80% منهم في بعض الأحيان من الأمريكيين الذين لا تربطهم أية جذور عرقية أو دينية بالشرق الأوسط ، هم "أمريكيون أمريكان" كم وصفتهم في قسوة ذات مرة أو "أمريكان بيض" كما وصفهم أحد الطلبة الفلسطينيين في شراسة. ولأول مرة لم تكن محاضراتي محل الاعتراض وإنما كان الاعتراض على المحاضرات التي تلقوها من رئيسهم والمحاضرات التي يقرأونها بصحفهم عن "الحرب على الإرهاب" التي تقوم بها إسرائيل وعن ضرورة التأييد المطلق دون تساؤل لكل ما تقوله أو تفعله تلك الدولة الصغيرة الحليفة بالشرق الأوسط.
كان هناك على سبيل المثال ضابط بحري متقاعد ذو وجه متجعد، خاطبني بعد كلمة لي بإحدى كنائس سان دييجو قائلا " لقد كنت يا سيدي ضابطا على حاملة الطائرات جون إف كينيدي أثناء حرب الشرق الأوسط في 1973. كنا قريبا من جبل طارق وكانت مهمتنا هي تزويد المقاتلات النفاثة بالوقود. كنا نرسل تلك الطائرات إلى إسرائيل بعد أن دمر العرب سلاحهم الجوي. كانت طائراتنا تهبط وعليها علامات المارين والقوات الجوية الأمريكية USAF مزالة جزئيا وقد رسمت على جانبها نجمة داود. هل يعلم أحد لماذا أعطينا كل تلك الطائرات هكذا للإسرائيليين؟ حينما أري طائراتنا ودباباتنا على التلفاز تستخدم للهجوم على الفلسطينيين فإنني أفهم لماذا يكره الناس الأمريكيين." لقد سألت مضيفي الذي كشف عن شخصية محدثي فيما بعد وأكد لي أنه كان بالفعل ضابطا بالبحرية الأمريكية.)
يمضي فسك إلى الحديث عن الأعداد الكبيرة التي حضرت محاضراته على غير توقع منه، فمحاضراته في الماضي لم تجذب إليها أعدادا كبيرة، واستخلص من ذلك أن الأمريكيين قد ملوا تشويه شبكات التلفاز للأخبار وكذبها المكشوف. وأضاف أن السبب ربما يكون أيضا اختياره لعناوين استفزازية لمحاضراته مثل "11 سبتمبر، يمكنك أن تسأل عمن فعلها ولكن بحق السماء لا تسأل لماذا". يستطرد فسك في موضع آخر:
( قلت للحضور أن الدنيا لم تتغير بعد 11 سبتمبر، وأن اللبنانيين فقدوا 17500 قتيل خلال الغزو الإسرائيلي في 1982 وهو رقم يزيد عن خمسة أضعاف ضحايا الجرائم العالمية ضد الإنسانية في 11 سبتمبر. ومع ذلك فإن العالم لم يتغير حينئذ منذ عشرين عاما. لم يشعل أحد الشموع حينئذ ولم تقام الصلوات التذكارية. في كل مرة قلت ذلك كانت الرؤوس عبر القاعة تهتز إيماء بالموافقة، رؤوس شابة وأخرى بيضاء أو ملساء. كانت أبسط نكتة أو فكاهة تقلل من شأن الرئيس بوش تقابل بنوبات ضحك عالية. سألت إحدى مضيفاتي عن سر ذلك وكيف يتقبل المستمعون ذلك من بريطاني فأجابت "لأننا لا نعتقد أن بوش قد فاز في الانتخابات.")
يمضي فسك إلى الحديث عن أساليب تشويه الإعلام الأمريكي للحقائق عن العروض الإسرائيلية التي يدعون أن عرفات قد رفضها في الماضي وكيف أنهم عرضوا عليه دولة فلسطينية من 96% من الضفة الغربية وغزة وعاصمة لها بالقدس فلم يقبل وفضل الإرهاب على كل ذلك. يستطرد فسك:
(أخذت أهدم هذا الهراء عامدا متمهلا. القدس كانت ستبقى "عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل". وطبقا لكامب دافيد كان على عرفات أن يقبل ما أطلقت عليه مادلين ألبرايت "نوعا من السيادة" على منطقة مسجد الحرم الشريف وبعض الشوارع العربية ويكون البرلمان الفلسطيني في "أبو ديس Abu Dis" تحت الحوائط الشرقية للمدينة، بينما تمتد حدود بلدية القدس غير الشرعية في عمق الضفة الغربية. أما المستوطنات اليهودية مثل "معالي أدوميم Maale Adumim" وعددا آخر غيرها من المستوطنات فإنها لم تكن محلا للتفاوض، ولا كانت المنطقة العازلة العسكرية الإسرائيلية حول الضفة الغربية بعرض 10 كيلومتر أو طرق المستوطنين التي تشق "الدولة" الفلسطينية. لم يعرض على عرفات سوى 46% من ذلك الجزء الذي يعادل 22% من فلسطين الأصلية.)
يتابع فسك على لسان أحد محدثيه:
( "كنت ضابطا في البحرية بالخليج في الستينيات. لم يكن لدينا هناك في ذلك الوقت سوى بضعة سفن. كان شاه إيران يلعب عنا دور الشرطي في تلك الأيام. أما اليوم فإن لنا كل تلك السفن هناك وجنودنا بالدول العربية ويبدو أننا نسيطر على المكان تماما." قلت لنفسي إن أسامة بن لادن لا يستطيع أن يقدم وصفا أفضل من ذلك. وتأملت كيف أن الصحف الأمريكية لا تقول مثل ذلك.)
يعجب فسك من تشويه الإعلام الأمريكي للحقائق وكيف أن ذلك امتد ليشمل تقاريرهم عن محاضراته ذاتها وضرب عددا من الأمثلة يكشف الزيف المتعمد لتلك الصحافة الصهيونية العفنة. والمشاهد ليهود التلفاز الأمريكي يخرج بنفس النتائج حينما تعلو أصواتهم على شبكات CNN وSky News وFox News وغيرها من شبكات التشويه التلفازي حيث ترى كل هؤلاء اليهود أشبه بجمع من الكلاب يظل ينبح ليل نهار إلى أن يطغي نباحهم فيعلو فوق صوت الحقيقة.
وكأنما أرادت النيويورك تايمز أن تؤيد مقولة روبرت فسك عن الزيف والتضليل الإعلامي، فبينما العالم يحكي عن مذبحة جنين وجرائم الحرب غير المسبوقة تاريخيا التي ارتكبها الجيش اليهودي نجد تلك الصحيفة الصهيونية المضللة تكتب في 19/4/2002 عن "ضحايا عمليات الإرهاب الانتحارية" وعن "الشهداء" الإسرائيليين وحكايات وروايات مسيلة للدموع عن معاناة ذويهم، تحت عنوان "الإسرائيليون حزانى على موتاهم في بحثهم المطول عن السلوان" بقلم اليهودي جول برنكلي Joel Brinkley نقلا عن اليهودية رينا كاسلنووفو Rina Castelnuovo في إسرائيل. المقال لا يستحق الترجمة ويكفي أن أقول لك يا سيدي القارئ أنه يسير على نفس النمط اليهودي المعتاد من التباكي على موتاهم الأبرياء من النساء والأطفال أو من تركوا وراءهم نساء وأطفالا، بينما دم الفلسطينيين في مجازر شارون لم يجف بعد. أليست هذه "صفاقة إنسانية"؟
لم تكتب الصحف بعد عن حادث الطائرة الإيطالية التي اصطادت مبنى بيريللي الحكومي وهو أكثر مباني ميلانو ارتفاعا، مخلفة وراءها منظرا شبيها بمنظر برجي مركز التجارة في نيويورك قبيل انهيارهما. يبدو أن الأمر ليس مجرد حادث وليد الصدفة كما تريد السلطات الإيطالية أن تعتقد. كان الطيار السويسري من أمهر الطيارين وقد أرسل رسالة استغاثة بعد أن شلت أجهزة قيادة الطائرة قبل أن يقوم الموساد الإسرائيلي بتوجيهها بواسطة "الريموت كنترول" لضرب المبنى. سماء ميلانو في اتساع سماء أية مدينة كبرى، فلماذا الارتطام بهذا المبنى بالذات؟ أتتهمني يا سيدي القارئ بأنني من أنصار نظرية المؤامرة؟ سامحك الله.
إلى اللقاء في الأسبوع القادم.
(16)
من أقوال الصحف العالمية
ترجمة وعرض: محمد عبد اللطيف حجازي
mehegazi@yahoo.com
26/04/2002
هكذا يتخبط جورج بوش إذ بدأ هجومه على العراق بطلب وقح للتأييد من المجتمع الدولي فلما جاءه الرفض من كل اتجاه أرسل صبيته وعلى رأسهم توني بلير يجوبون البلدان طلبا لتأييدهم في مطلب عجيب شاذ بينما تصايح بوش وأعوانه من صهاينة البيت الأبيض بأن "من ليس معنا يكون علينا"، لكن العالم الحقيقي لم يهتز وأبدت البلايين في كل أنحاء المعمورة استياءها من همجية رعاة البقر في أفغانستان وأبدوا استياء أكثر من نية العدوان على العراق. لكن الصبي الأمريكي المغرور أعلن أن العالم أجمع لا يهمه وأنه سوف "يغير النظام" بالعراق – أي سيغزو العراق بلغة اليهود – منفردا، ويبدو أن توني بلير قد تلقى صفعة في كواليس السياسة البريطانية أخبر بوش بعدها بعدم إمكانه المساعدة العسكرية وخاصة بعد أن سحب جنوده من أفغانستان إثر ضغط داخلي مماثل، ويبدو أيضا أن كولن باول قد أوضح الأمر لسيده المتهور من أن هجوما على العراق يحمل بين طياته كل عوامل الفشل العسكري قبل السياسي، فضرب العراق من الجو لهدم بنيته التحتية من جديد سيكون مفهوما واضح الدوافع للعالم أجمع ولن يغير شيئا من الوضع القائم، كما أن هجوما أرضيا لن تتوفر له القوات الأجنبية فليس هناك عميل عربي واحد يستطيع المجازفة بذلك لأن أول طائرة مصرية تنطلق باتجاه بغداد على سبيل المثال يكون من الجائز أن تدك قصر الرئاسة في القاهرة أولا. وقد أخذ بنو سعود الأمر من أقصر الطرق بعد أن وصل شعب الحجاز درجة الغليان فأعلنوا بوضوح لا لبس فيه أن أراضيهم لن تستخدم في هجوم على العراق، وأسرع العاهر الأردني الخطى نحو أسياده راجيا مستجديا وهم يمهدون مطاراته لتتناسب وحجم قاذفات القنابل الأمريكية الصهيونية دون أن يجسر على الاعتراض. اتضح لكل تلك الأسباب مجتمعة أن استخدام القوات الأرضية الأمريكية ضد بغداد أمر محفوف بالخطر وتكرار لهزيمة لقيتها القوات الأمريكية الأرضية التي حاولت غزو بغداد في 1991 وهزمت هزيمة منكرة عتمت عليها وسائل الإعلام الأمريكية الصهيونية التي كانت تدير دفة أنباء الحرب من فندق الشيراتون واستوديوهات هوليوود. وفوق كل هذا وذاك فإن رعاة البقر الأمريكيين موحولون اليوم حتى الآذان مع رعاة الماعز في أفغانستان، وخسائرهم تتفاقم يوما بعد يوم في تلك الرحلة الطويلة التي قال عنها بوش في بدايتها أنها لن تستغرق سوى بضعة أيام يعود بعدها "الأولاد" سالمين إلى أرض الوطن.
لذلك خرج علينا بوش أخيرا بنبرة أكثر تواضعا وبلع في هدوء مصطنع كل تبجحه وصفاقته المعلنة. لكن الصهاينة من حوله ظلوا ينعقون وكان أكثرهم سخفا ووضوحا ذلك الصهيوني القح دونالد رمزفيلد الذي وقف مترددا في أحد المؤتمرات الصحفية ينعق كالبوم بكلام سخيف معاد عن أسلحة الدمار الشامل وغير ذلك من السخافات المكشوفة التي ملتها أسماعنا وأصبحت مجرد هلوسة صهيونية لا تقدم ولا تؤخر ولا تفسر شيئا. كان وجه رمزفيلد ونبرة صوته تنضح كالمعتاد بالغش والكذب والتدليس الصهيوني الذي عرفناه وألفناه والشهوة إلى إراقة الدماء التي لا تعادلها سوى شهوة مجرم الحرب آريل شارون.
في عرض خاص عن أزمة العراق كتبت الأبزرفر البريطانية في 11/8/2002 تحت عنوان "ماندلسون يقول بأن ما يردده بوش يخيف أوربا" بقلم جابي هنزلف Gaby Hinsliff وجاسون بيرك Jason Burke :
(أضاف بيتر ماندلسون Peter Mandelson < وزير بريطاني يهودي سابق > صوته إلى القلق المتزايد من أسلوب الرئيس بوش في معالجة أزمة العراق فقال محذرا أن الحديث الهجومي لقادة الولايات المتحدة قد يؤدى إلى تغيير الرأي العام الأوربي في الاتجاه المضاد. تكلم الوزير السابق الذي بقي قريبا من الحكومة، بينما أوضح استطلاع جديد للرأي أن ثلثي الناخبين بدائرة رئيس الوزراء نفسه لا يؤيدون العمل العسكري ضد صدام حسين.
كان ماندلسون عائدا لتوه من رحلة إلى واشنطون وقال أن خطب الرئيس العامة قد تم تخطيطها بطريقة ضيقة بحيث تستهوي الأمريكيين القلقين. وأضاف أن "بل كلنتون كان يجيد الحديث بلغة دولية تقصد كل أطراف العالم .. لم يتمكن بوش من إجادة ذلك الأسلوب".
تعكس كلمات ماندلسون قلقا داخل الحكومة البريطانية حول انخفاض شعبية الرئيس <الأمريكي> في بلاده مما يخلق احتمالات وقوع بلير في المخاطر بتأييده قضية الرئيس.)
يمضي المقال إلى القول بأن الرأي العام مجرد رد فعل لكم مجهول حيث أن طبيعة هذا العمل العسكري غير واضحة ووسائل الإعلام ملأى بتكهنات "خبراء الكراسي" وأن الرأي العام يمكن تغييره إذا كانت الأمور أوضح. وأضاف المقال أن الأمريكيين محقون في مخاوفهم من الإرهاب بعد 11 سبتمبر ويدهشهم أن الأوربيين لا يشاركونهم مشاعرهم، بينما يعتقد الأوربيون أن بوش ماض في طريقه دون اعتبار لآراء الآخرين أو مصالحهم. يتابع المقال:
(أضاف ماندلسون أن الحكمة التي تسير عليها واشنطون هي "مع حلفائنا إن أمكن أو بمفردنا إذا اقتضت الضرورة." ويصر بلير على أنه لم يتم اتخاذ أي قرار بشأن العمل العسكري وأنه لا بد من عمل شيء بشأن أسلحة الدمار الشامل.
بدأت بغداد في شن حملة دعائية على أمل فصل بريطانيا عن الولايات المتحدة حتى يمكن تجنب الحرب. يعد صدام حسين نداء خاصا لبلير ربما عن طريق التلفاز داعيا إياه إلى السفر إلى العاصمة العراقية. من المعلوم أن صدام قد أعلن أن بلير يستطيع زيارة أي موقع ورد ذكره بالملفات السرية للحكومة البريطانية وتم الادعاء بأنه للأسلحة الكيميائية أو البيولوجية أو النووية كدليل ضد صدام.)
لم يكن بخطبة الرئيس صدام حسين التي أذاعها التلفاز العراقي فيما بعد أي استجداء لبلير أو غيره للقيام بزيارة للمواقع العراقية، وإنما كانت هناك دعوة عامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لاستئناف التفتيش بالشروط المحددة. وهي مناورة سياسية ماهرة من الرئيس العراقي تركت بوش في العراء يلملم أطراف خيبته وصيحات قوته.
يبدو أن كلا من بوش وبلير قد أصبحا اليوم بحاجة ماسة إلى صرف بعض الجهد المبذول في "الحرب على الإرهاب" إلى "الحرب على الإفلاس" حيث يأخذان ببلديهما سريعا نحو أزمة اقتصادية كان التهور والإنفاق العسكري من أهم أسبابها. ولو تورط بوش المجنون في حرب أخرى نتيجة ضغط أعوانه الصهاينة الذين يمسكون بزمام إدارته فإن ذلك لن يسبب الانتعاش كنتيجة لاقتصاد الحرب الوهمي الذي كان ينقذ أمريكا من تهورها في الماضي وإنما قد يتسبب في كشف كل عورات ذلك الماضي التي تمت السيطرة الوهمية عليها، فتهوى أمريكا إلى درك سحيق وأزمة اقتصادية لم تر مثلها من قبل. فأمريكا في حقيقة أمرها مارد هائل منتفخ بالهواء الساخن، تعتمل بداخلها مشاكل اجتماعية واقتصادية هائلة من صنع يهود الإعلام والإدارة الأمريكية الصهيونية.
تحت عنوان "الرد العراقي" نشرت الواشنطون بوست" الأمريكية الصهيونية افتتاحية في 13/8/2002 تقول:
(نفي أحد كبار الرسميين العراقيين نفيا باتا احتمال استئناف الأمم المتحدة التفتيش على أسلحة الدمار الشامل ببلاده. قال محمد سعيد الصحاف وزير الإعلام "لقد انتهى التفتيش بالعراق." لا يستطيع أحد القول بأن هذا هو القول الأخير، فتحت نظام الحكم الفردي بالعراق يمكن لوزير أن يقول قولا ثم يتم إنكاره والتنصل منه في اليوم التالي، مثلما يمكن طرد أي رسمي دون شرح أو سابق إنذار. لكن تعليق وزير الاستعلامات يعكس بالتأكيد واقع اليوم ويقدم تذكرة نافعة بما هو تحت التهديد.
كان معظم النقاش الدائر مؤخرا - حول إمكان قيام الولايات المتحدة بعمل عسكري ضد العراق - يتركز على مدى صواب "الضربة الوقائية" وكأن ما يربو على عقد من الزمان لا قيمة له. واقع الأمر أن الأسس القانونية والأخلاقية والعملية للقيام بعمل ضد صدام حسين تعود جذورها إلى عام 1990، ولا تعني تلك الأسس الولايات المتحدة بمفردها. لقد أرسل صدام حسين جيشه إلى دولة الكويت المستقلة ذات السيادة، وكان قرار التضامن الدولي الواسع برئاسة الولايات المتحدة بأن هذا الخروج على القانون لا يجوز له الاستمرار، ورفض صدام حسين التراجع وحارب وخسر. وقد تعهد الدكتاتور لمجلس أمن الأمم المتحدة - كشرط لاحتفاظه بالسلطة وهو مهزوم – بأن يتخلص العراق من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية والصواريخ التي يمكن أن تحملها، ووعد أيضا بأن يسمح للأمم المتحدة بأن تتأكد بنفسها من أنه قد امتثل.
لا يمكن لأحد القول بأن صدام حسين قد أوفى بتعهداته، باستثناء صدام نفسه ووزرائه المتملقين المتسلقين. إن رفضه نزع السلاح وإهاناته الصفيقة لقرارات الأمم المتحدة تعد صفعات موجهة ليس للولايات المتحدة فقط وإنما إلى كل أمة تدعي تقديرها للقانون الدولي ونظام الأمم المتحدة. ومع ذلك كانت تلك الدول ومعها رؤساء الأمم المتحدة على استعداد لتحمل هذا الخروج على القانون شهرا بعد شهر وعاما بعد عام. إن حلفاء الولايات المتحدة في أوربا وآسيا والشرق الأوسط الذين يعارضون العمل العسكري بصفة مستمرة يقولون دائما أنهم مصرون على نظام دقيق للتفتيش. لقد تلقوا الإجابة بالأمس، وهي نفس الإجابة التي يتلقونها منذ وقت طويل، فما هو العمل؟
صحيح أن صدام حسين ليس الطاغية الشرير الأوحد بهذا العالم، وليس الطاغية الوحيد الذي يسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. ليس في طاقة الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة – ولا يجب عليهما – التفكير في التدخل العسكري ضد كل طاغية مماثل مؤهل لعضوية محور الشر، لكن صدام حسين نوع فريد ليس هذا فقط لأنه قد استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه وضد غيره. لقد بحث العالم حالته ووصل إلى حكم بشأنها، وإذا ما كانت الدول غير قادرة على فرض تطبيق ذلك الحكم فإن الضرر سوف يمتد بعيدا خارج نطاق منطقة الشرق الأوسط.)
تبدو الصهيونية الأمريكية هنا في أوضح صور كذبها وتدليسها ومحاولة إرهاب الشعب الأمريكي مدعية أن الأخطار تمتد "خارج نطاق الشرق الأوسط" أي إلى أمريكا، وكأن صدام حسين يمتلك الصواريخ العابرة للقارات ومخزونا من الرؤوس النووية يشبه المخزون الإسرائيلي من قريب أو بعيد.
يبدو عزف الصحافة الصهيونية الأمريكية أحيانا في حالة نشاز وعدم انسجام مع عزف الصهاينة الأمريكيين بالإدارة الأمريكية الذين انتهوا تماما من عزف تلك المقدمة الموسيقية العنيفة "الفورتيسيمو" عن وحشية وخطورة صدام وضرورة ضرب العراق وانتقلوا منها إلى مقطع "الليجرو" أقل ضوضاء عن ضرورة التنسيق مع الحلفاء حتى يمكن "تغيير النظام" بالعراق، بل انهم قد أوشكوا على الانتقال إلى خاتمة هادئة "لارجو" بعد أن أيقنوا بعجزهم عن تلك المخاطرة. لكن كلاب الصحافة الصهيونية الأمريكية كدأبهم عاكفون على النباح وإثارة الذعر بين أفراد الشعب الأمريكي الساذج الجهول.
أما افتتاحية طهران تايمز بتاريخ 14/8/2002 فكانت تحت عنوان "الأهداف الأمريكية أبعد من العراق"، أقتطف منها:
(ليست العراق هي الهدف الوحيد لإدارة بوش. فقد تضم أهداف الخطط الأمريكية الجديدة – تحت ستار "الحرب ضد الإرهاب" - دولا أخرى بالشرق الأوسط تشمل السعودية أقرب الحلفاء إلى واشنطون.
قالت جريدة النيوزويك أن بعض المصادر القريبة من الإدارة الأمريكية تحث بوش على شن هجوم على إيران والسعودية بعد الهجوم على العراق. ولكي يتم التمهيد لاتخاذ إجراء ضد السعودية قال سيمون أندرسون محلل شئون الشرق الأوسط الموالي لإسرائيل أن السعودية أعطت لبن لادن مساعدات بملايين الدولارات.)
( يعتقد المحللون هنا أن النظام الصهيوني يحاول إشعال المشاعر المعادية للمسلمين بالولايات المتحدة. أحد أسباب ذلك أن حربا جديدة في الشرق الأوسط تناسب تل أبيب لأنها تخلق ظروفا تصرف الانتباه عن أفعالها وتعطيها حرية أكبر لإنهاء حركة المقاومة بالمناطق المحتلة. أفاد أحد المحللين بأن "بوش قد عقد العزم على السيطرة على منطقة الخليج الغنية بالبترول، وهذا هو السبب في أنه قد يحدث بعض التغييرات في السعودية أو في بعض البلاد الأخرى بحجة إرساء الديمقراطية بالعالم العربي.")
يمضي المقال إلى القول بأن هجوما على العراق ما زال قائما وأن تأخيره يرجع إلى معارضة دول المنطقة وروسيا وفرنسا وبعض الدول الأوربية الأخرى. هذا التصور للصحيفة الإيرانية لا يمكن استبعاده بعد أن رأينا عينات من الجنون الأمريكي في حرب الخليج الأولى وفي أفغانستان بعد عشر سنوات، فلعل دورة الجنون الأمريكي تكون كل 10 سنوات لكي ننعم بعشر سنوات أخرى من الهدوء النسبي بهذا العالم المضطرب.
(17)
من أقوال الصحف العالمية
ترجمة وعرض: محمد عبد اللطيف حجازي
mehegazi@yahoo.com
تاريخ المقال: 3/5/2002
نشرت "طهران تايمز" في 2/5/2002 افتتاحية بعنوان " إيران لن ترضخ للضغط والإخافة". تقول الافتتاحية:
(قال قائد الثورة الإسلامية آية الله سيد علي خاميني يوم الأربعاء أن الولايات المتحدة تسعى إلى فرض دكتاتورية دولية على كل الدول، وعلى الأخص تلك التي تسعى إلى العدل. وقد أشار آية الله خاميني إلى الأحداث الأخيرة في فلسطين معنفا تجاهل واشنطون لجرح مشاعر كل شعوب العالم بسبب الجرائم التي يرتكبها النظام الصهيوني بفلسطين المحتلة. وقال القائد "إن مواقف الجمهورية الإسلامية واضحة تماما تجاه منطق القوة والسيطرة الأمريكي. إن الأمة والحكومة اللتان قادتا ثورة باسم الإسلام والهوية الوطنية والاستقلال لن ترضخا أبدا للبلطجة الأمريكية."
كان القائد يخطب في جمع كبير من المدرسين والعاملين من جميع أرجاء البلاد في مناسبة يوم العمل والمدرسين. وقد استنكر آية الله خاميني الأحداث الأخيرة في فلسطين من ذبح للأبرياء وتدمير للمساكن واعتقال للشباب ووصف تلك الأحداث بأنها "أشد الجرائم جبنا على الإطلاق." وأضاف القائد أن هدف الولايات المتحدة من دعم النظام الصهيوني وتجاهل جرائمه ووحشيته هو أن تعلن على العالم سياستها من الإخافة والدكتاتورية الدولية ولتؤكد ضرورة الإبقاء على الورم السرطاني الصهيوني بأي ثمن. وأضاف القائد أن سياسات الولايات المتحدة والنظام الصهيوني قد فشلت رغم ادعائهم العكس لأن الأمة الفلسطينية لم ولن تستسلم لرغباتهم وظلمهم وقد تحملت تلك الأمة حتى الآن كل ضغوطهم.
قال القائد أيضا أن ذروة المقاومة الفلسطينية تتجلى في عمليات السعي للاستشهاد التي يقوم بها الشباب الفلسطيني والتي أنزلت الرعب في قلب العدو، وحذر القائد من أن رجال الدولة الأمريكيين الكاذبين يحاولون الحط من شأن العمليات الفلسطينية الساعية للاستشهاد. وقال أن التضحية بالنفس والتفاني في سبيل الأهداف الوطنية والدينية تعكس قمة شرف الأمة وشجاعتها وكرامتها وأن الأمة الفلسطينية باقية حية ومتيقظة وستستمر على طريقها.
قال القائد أن الدعم العملي للأمة الفلسطينية هو صيغة أخرى من صيغ الصراع ضد جرائم النظام الصهيوني، وحث أمم العالم والدول الإسلامية – خاصة العربية – على تأييد الفلسطينيين بصورة عملية. قال القائد أن اقتراح فرض الحظر لمدة شهر على تصدير البترول إلى الدول المؤيدة للنظام الصهيوني هو اقتراح جاد وأن على الدول العربية والإسلامية المصدرة للبترول أن تأخذ قرارات جدية في هذا الشأن بدلا من الخدمة الشفهية. وأضاف أن الحظر المقترح يوضح للعالم أن الشعوب والحكومات العربية والإسلامية تستطيع الوقوف والعمل ضد الدكتاتورية الدولية.
أثنى القائد على الموقف الشجاع لبعض الدول العربية مثل سوريا ولبنان وقال أن دعم الأمة الفلسطينية المظلومة "واجب تاريخي"، وأن الإجراءات التي تتخذها الدول العربية والإسلامية اليوم سوف تحكم عليها الأجيال القادمة وعلى مدى إخلاصها.)
تمضي الافتتاحية شارحة موقف القائد الإيراني من زيف الحملات والادعاءات الأمريكية على المستوى الرسمي وبوسائل الإعلام وكيف أن العالم اليوم يكره الإدارة الأمريكية أكثر من أي وقت مضى. وتمضي الافتتاحية إلى القول:
(قال القائد أن عداء البيت الأبيض لإيران يرجع إلى أن إيران تتوخى العدل ولها مواقف مستقلة ولأن المؤسسة الإسلامية لا تخاف من التهديدات الأمريكية. وأوضح القائد تماما أن "جمهورية إيران الإسلامية لن تستسلم أبدا لمنطق الولايات المتحدة من القوة والسيطرة.")
( قال آية الله خاميني أن المشكلة الأساسية مع الولايات المتحدة هي أن المؤسسة الإسلامية وهويتها الإسلامية قد أنهت سيطرة الولايات المتحدة على إيران وأضاف أن الولايات المتحدة لن تكون أبدا مستعدة للاعتراف رسميا - على طاولة المفاوضات - بالهوية الإسلامية لإيران وشعبها المخلص وأن "أي محادثات ستكون في صالح الولايات المتحدة لأن واشنطون ستضع على طاولة المفاوضات عددا كبيرا من مطالبها غير المبررة")
وأسهبت الافتتاحية في شرح طبيعة المقاومة الإيرانية للولايات المتحدة وكيف أن أحدا من الرسميين الإيرانيين لا يجسر على التفريط في المصالح الأساسية والحيوية لإيران التي تستمد قوتها في مواجهة أعدائها من قاعدتها الشعبية.
قارن ذلك بما هو لدينا في مصر والدول العربية. ألا تذكرك مهزلة استفتاء "مشرف" - دكتاتور كراتشي الجديد - بتلك الاستفتاءات الهزلية التي جاءت إلى الحكم في مصر بدكتاتور تلو الآخر ابتداء بجمال عبد الناصر وانتهاء بمحمد حسني مبارك؟ أليس احتقارا للشعوب وعبثا بأبسط مبادئ الديمقراطية أن يقف فرد واحد على المسرح السياسي ليقول "أنا وبس، وما فيش غيري، واللي مش عاجبه أحطه في المعتقل"؟ لقد استعار مشرف منا هذا النموذج الكئيب كاملا بعد "نجاحه" في مصر لنصف القرن. حتى نتيجة الاستفتاء المزورة خرجت مثل نتائجنا المزورة تتراقص فيها نسبة المؤيدين قريبا من 100%. لكن مشرف أهمل حقيقة واحدة هي أن الشعوب كلها ليست نعاجا، وأن الشعب المصري ربما يكون هو الشعب الوحيد الذي عبد الملوك في غابر الزمان وحول الحكام إلى أصنام يعبدها في العصر الحديث. وهناك من الشعوب من يعاني الفقر المدقع – مثل شعوب أمريكا اللاتينية – لكنها لا تفرط أبدا في حقوقها السياسية ولا تطول بها إقامة أي دكتاتور.
الملاحظ أن الخطاب الإيراني يؤيد قطع العراق – دون ذكره بالاسم – للبترول لمدة شهر. ربما أن تلك دعوة لبحث عملية قطع جماعي لضخ البترول. وأيا كان الهدف فإن في ذلك تأييد لموقف العراق ومحاولة جادة مترددة تمد يدا للتقارب نرجو أن يتفهمها الرئيس صدام حسين رئيس جمهورية العراق وأن يكون قد عرف أن العدو الحقيقي للعراق هو الولايات المتحدة وليس إيران التي استخدمه الأمريكيون لضربها في الماضي في حرب غريبة الدوافع والأسباب انزلق إليها معه الكثير من الحكام العرب من الخونة والمرتزقة. على أي حال الرئيس صدام حسين هو القائد العربي الوحيد الذي يبدي رجولة تكشف عورات الآخرين وخنوثتهم.
ربما يستحسن أحيانا أن نقرأ أقوال العدو التي قد نختلف معها لكي نكتشف أسلوب تفكيره وطريقة مناوراته وأكاذيبه الإعلامية. سأقدم مثالا لذلك هو افتتاحية نشرتها تلك الصحيفة الصهيونية الأمريكية "ناشيونال بوست National Post" بتاريخ 1/5/2002 تحت عنوان "التسوية للمستوطنات ليست سهلة". تقول الصحيفة:
(يعد الوضع الشائك للمستوطنات اليهودية في غزة والضفة الغربية واحدا من المشاكل الصعبة التي تفصل بين إسرائيل والفلسطينيين. فقد اتسعت تلك المجتمعات منذ اتفاقيات أوسلو بدعم من الدولة لبنائها فوق الأراضي التي استولت عليها إسرائيل في 1967. ومع ذلك فإن الادعاء – كما اقترح كوفي عنان مؤخرا – بأن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقطاع "غير قانوني" هو ادعاء غير صحيح. كانت حدود إسرائيل قبل 1967 خطوطا للهدنة خلفتها الحرب التي أعلنتها الدول العربية على الدولة اليهودية في 1948، فهي ليست حدودا دولية معترف بها. كما أن قرارات الأمم المتحدة الصادرة بعد حرب 1967 لا تتطلب انسحاب إسرائيل من كل المناطق المختلف عليها، وإنما تتطلب الانسحاب من جزء يتم التفاوض بشأنه ويكون إخلاؤه متمشيا مع حق إسرائيل في العيش داخل حدود مؤمنة ومأمونة. ومع ذلك فإن قلق الفلسطينيين بشأن تلك المستوطنات أمر مشروع في كثير من الحالات. فالطرق المحمية التي تصل بين المستوطنات تفتت الأرض الفلسطينية إلى أجزاء وقد سبب توسع المستوطنات في بعض الحالات خسائر للفلسطينيين في البيوت والمتاجر.
أهم من ذلك أن الدور الرمزي لتلك المستوطنات يعطي مظهرا استعماريا. ففي غزة يتحكم 10 آلاف من اليهود في 20% من الأرض التي يقول الفلسطينيون عنها أنها أجود الأراضي، وكذلك 40% من شاطئ البحر. بينما يحاول مليون فلسطيني الحياة على البقية الباقية. يرى الفلسطينيون في توسع المستوطنات دليلا على أن الإسرائيليين سيقومون خلسة بضم مناطق أخرى.
ليس هناك شك في أن إسرائيل سوف تضطر إلى التخلي عن كثير من المستوطنات، إذا ما توصلت مع الفلسطينيين إلى اتفاق سلام ذو دولتين. أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي أريل شارون في خطاب له أمام الكنيسيت في العام الماضي إلى أنه يعرف ذلك، فتكلم عن "التنازلات المؤلمة" التي لابد للطرفين من عملها لكي يتم تحقيق السلام. وكان ذلك هو الاسم الكودي للمستوطنات.
لكن إسرائيل لن تخلي كل المستوطنات، فليست كلها وسائل للتحايل إذ أن بعض المستوطنات قد أقيم حول تجمعات يهودية كانت موجودة بالفعل والبعض الآخر تمت إقامته لأسباب أمنية حقيقية فقد كان عرض إسرائيل في أضيق نقاطها 10 أميال قبل 1967.
لذلك فإن حديث العرب عن الجلاء الكامل عن المستوطنات كشرط للسلام أمر لا يساعد على الوصول إلى حل. أعلن أحد الرسميين السعوديين في أعقاب زيارة ولي العهد الأمير عبد الله تكساس الأسبوع الماضي أنه يعتقد "أننا سنرى قريبا انسحابا إسرائيليا كاملا من كل المناطق الفلسطينية المحتلة." كان المقصود بذلك أن إسرائيل يجب أن تهجر جميع مستوطنات الضفة الغربية البالغ عددها 126 مستوطنة، بالإضافة إلى 19 مستوطنة أخرى أقل حساسية في غزة، والعودة إلى حدود ما قبل 1967. ويبدو أن مشروع السلام السعودي الذي ناقشته الدول العربية في بيروت في شهر مارس الماضي يشمل نفس المطلب.
أما عن إسرائيل فإنه توجد دلائل على أنها أيضا تزداد صلابة بشأن المستوطنات. فرغم حديث العام الماضي عن "التنازلات المؤلمة" أشار السيد شارون في الأسبوع الماضي إلى أنه لن يناقش إخلاء المستوطنات حتى تنتهي فترة حكمه. واضح أن استراتيجية السيد شارون للمدى القريب قوية الحجة فلا يمكن رؤية إسرائيل تقوم بعمل أي تنازلات جغرافية للفلسطينيين كنتيجة للإرهاب. لقد رأى الإسرائيليون ما يمكن أن يحدث من جراء عمل مثل تلك التنازلات، ففي عام 2000 سحبت إسرائيل قواتها منفردة من جنوب لبنان. كان ذلك التحرك في معظمه استجابة للمعارضة الداخلية للاحتلال.
سوف يتحدد وضع المستوطنات في النهاية عن طريق التفاوض والأخذ والعطاء بين الطرفين. السؤال الأساسي عندئذ هو: ما هي التنازلات التي يمكن أن يقدمها ياسر عرفات – أو السعوديين في هذا الشأن – في مقابل أن تسمح إسرائيل لنفسها بأن تختنق جغرافيا في نتانيا وتل أبيب؟ إن التنازل عن كل المستوطنات بما في ذلك تلك التي أقيمت لأسباب استراتيجية يعادل وضع الرغبة في السلام قبل دواعي الأمن. نحن لم نر من السيد عرفات أي دليل على حسن نية مشابه تجاه جيرانه من اليهود. لن يكون هناك سلام وستظل المستوطنات في مكانها إلى أن يثبت هو وغيره من العرب أنهم قد تخلوا عن هدف محو الدولة اليهودية.)
هناك نغمة سائدة في جميع الأوساط الإعلامية اليهودية هي أن إسرائيل لن ترحل عن كل مستعمرات الاستيطان اليهودي بالضفة الغربية وغزة. الأهداف واضحة فاليهود لم ينفقوا كل تلك الأموال في شق الطرق وتمزيق أوصال الضفة الغربية هباء. لقد فعلوا ذلك بهدف البقاء وتهويد تلك المناطق بالنمو التدريجي للمستعمرات حتى تتصل ببعضها البعض ويتم طرد كل الفلسطينيين من الضفة الغربية التوراتية التي سماها أعداء الله "جوديا وسماريا". هذا جزء لا يتجزأ من مخطط "إسرائيل الكبرى" وعلينا الانتباه.
السيد ياسر عرفات اشترى حريته الشخصية عن طريق وكيل سعودي في مقابل تناسي آلاف الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية والتعهد بقمع المزيد. أي أن المقاومة الفلسطينية ستصبح في خندق بين اليهود وبين السيد عرفات وحاشيته من المتعاونين معهم. السيد عرفات لم يكن أبدا في خطر فالاتفاق الثلاثي كان يقتضي عدم تعريض حياته للخطر وإلهاء الإعلام بأخبار حصاره حتى تبتعد العدسات عن محاولة الوصول إلى المواقع الحقيقية لجرائم اليهود الهمجية التي باركتها أمريكا وحلفاؤها. وبعد أن جفت دماء الشهداء وبعد خروج عرفات من سجنه الوهمي ماذا حصلت عليه فلسطين في المقابل؟ لم تحصل فلسطين إلا على وعد بالعودة إلى الطاولة لدفن القضية في دهاليز المؤتمرات الدولية. أما مذبحة جنين فقد عملوا كل شيء يمنحها تاريخيا لقب "المذبحة المزعومة" حيث لايوجد دليل على وقوعها لأن شارون نجح والكل في غفلة في أن يمنع الأمم المتحدة من التفتيش عن الدليل بصورة رسمية. لقد أصبح رقم "الموتى" طبقا للعد الإسرائيلي الذي سيدخل التاريخ أقل من مائة "معظمهم من الإرهابيين". وستعود إسرائيل بعد كل جرائمها إلى الحديث عن أمنها ومحاربة "الإرهاب الفلسطيني". ولم لا؟ والعرب غفل لا يستطيعون مجرد مقاطعة أمريكا وإسرائيل ويكتفي ملوكها ورؤساء جمهورياتها الوراثية بقمع المظاهرات ولعق الحذاء الأمريكي الذي يدوس كرامتهم، وعلى الفلسطينيين العودة من جديد إلى العمليات الاستشهادية فالأوطان لا تحرر إلا بالدماء. وعلى باقي العرب أن يقبعوا في بيوتهم بعد أن عجزوا عن إقصاء العملاء من ملوكهم ورؤسائهم عن عروشهم. لقد سقطت الأقنعة عن وجه العمالة لكننا ندير رؤوسنا ونرفض أن نرى.
أما الصحافة الصهيونية الأمريكية فقد بدأت سياسة جديدة هي تجاهل مجازر اليهود القائمة في فلسطين والعودة إلى النغمة القديمة من التباكي على ما يفعله الأوربيون ضد اليهود المساكين. لا أود أن أدفع بالسأم إلى نفسك بكلامهم الفارغ المطول عن الهولوهوكس (الهولوكوست) والحل النهائي وادعاءاتهم الكاذبة عن هتلر البريء من دمائهم والذي وضعوه في الشتات يسلخون فروته أربعين عاما في حرية تامة قبل أن يتصدى لهم بعض الأحرار الألمان من مراجعي التاريخ ليكشفوا كذبهم وتزويرهم. لكنني لا أستطيع تجاهل افتتاحية الواشنطون بوست في 2/5/2002 بعنوان "الحل النهائي – المرحلة الثانية". تتهكم تلك الافتتاحية من غزارة الثقافة الأوربية التي "تعادي السامية دونما حاجة إلى وجود اليهود"، وهي سفسطة المقصود منها أن معاداة اليهود أزلية حتى لو انتهوا من الوجود. أطرف ما جاء بتلك الافتتاحية هو الحديث عن معاداة المسيحية لليهود رغم ضعف المسيحية ذاتها وتحللها في أوربا:
(والآن تقدم أوربا معاداة المسيحية للسامية بدون المسيحية. المثال على ذلك تقدمه جريدة لاستامبا La Stampa الإيطالية "التحررية" في صورة كاريكاتير نشرته مؤخرا يصور المسيح في المهد تتهدده دبابة إسرائيلية وهو يقول " لا تقل لي أنهم يريدون قتلي مرة أخرى". إعادة عزف تلك النغمة المعمرة عن اليهود قتلة المسيح ما زال له صدى في إيطاليا المعاصرة. حيث أضحت الثقافة علمانية في تنوع "السوبرماركت".)
يمضي الكاتب اليهودي محتجا في عصبية على حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم بعد فرارهم من عصابات المافيا اليهودية في 1948 فيقول في صفاقة:
(يلاحظ رون روزنبوم Ron Rosenbaum <كاتب يهودي مغمور> صاحب ذلك الكتاب العظيم "شرح هتلر" في نبرة لاذعة فضيحة تأييد القادة الأوربيين للفلسطينيين في "حق العودة"، أي حق إغراق واستئصال الدولة التي كان إنشاؤها ردا على الإبادة الأوربية "حيث يعيش الكثير من الأوربيين في منازل سرقوها من اليهود الذين ساعدوا على قتلهم.")
أتوقف هنا يا سيدي القارئ حفاظا على ما في جوفك. هل لاحظت التبجح والكذب اليهودي المعتاد؟ الكاتب يدعي في تلقائية أن أوربا قامت بحملة إبادة لليهود، رغم أن التاريخ الصحيح يرينا أن أسوأ ما حدث لليهود هو طردهم من مكان لآخر ولا عجب في ذلك فقد أثبت اليهود أنهم جراثيم ضارة أينما حلوا ويجب تطهير البلاد –أي بلاد – منهم ومن شر عنصريتهم وانطوائهم على أنفسهم وخيانتهم لكل الدول التي استضافتهم على مر التاريخ. هل لاحظت كيف يستنكر الكاتب اليهودي في عداوة مفرطة حق الفلسطينيين الطبيعي في العودة إلى ديارهم؟ وهم أهل البلاد الأصليين الذين عاشوا وعاش آباؤهم وأجدادهم على أرضها فوق التراب وتحت التراب.
نشرت الجارديان البريطانية بتاريخ 3/5/2002 تقريرا بعنوان "إصابة مميتة لفلسطيني بينما الوقفة أمام الكنيسة تزداد سوءا" بقلم سوزان جولدنبرج Suzanne Goldenberg المراسلة اليهودية لجريدة الجارديان في القدس:
(ازدادت الوقفة القاتلة في بيت لحم بالأمس حدة إذ أطلق الجنود <الإسرائيليين> النار على فلسطيني فمات على باب كنيسة المهد بينما جرت مجموعة من ناشطي السلام إلى داخل الكنيسة. وبعد أن أنهي الاتفاق الأنجلوأمريكي حصار بيت لحم بساعات دخل حصار ميدان المهد شهره الثاني وسط نوبات من إطلاق النار.
فتحت القوات الإسرائيلية النار على ثلاثة من المسلحين الفلسطينيين عند خروجهم من باب الكنيسة المحاصرة – التي بنيت في القرن الرابع - فقتلوا رجلا وجرحوا اثنين ورد الفلسطينيون على النار بالمثل. بعد ساعات قام ناشطو السلام من بريطانيا وأيرلندا والولايات المتحدة وأوربا بالاندفاع عبر ميدان المهد إلى داخل الكنيسة حاملين أكياس الأرز والعدس.
قالت كرستن شير Kristen Schurr وهي واحدة من ناشطي السلام أن الناشطين انقسموا إلى ثلاث مجموعات لإرباك الجنود الإسرائيليين. اندفع 13 منهم واندفع الجنود خلفهم وقبضوا عليهم بينما اندفع 10 آخرين ودلفوا داخل الكنيسة حينما فتح الفلسطينيون الباب. قالت كرستن "أعتقد أننا فاجأنا الجنود، لقد ركزت بصري على الباب واتجهت صوبه دون توقف". لقد انضموا إلى ما يزيد عن 150 فلسطيني من رجال الدين والمدنيين والمسلحين الذين حوصروا داخل الكنيسة لشهر.)
يمضي المقال ليحكي ما نعرفه من تفاصيل الاتفاق الذي أطلق بموجبه سراح عرفات. أغلب الأمر أن الصلف الإسرائيلي أمام كنيسة المهد سوف ينتهي باتفاق مشابه يحفظ ماء وجه الطرفين ويخفف عن إسرائيل غضبة العالم المسيحي في أوربا والتي انعكست في صورة مزيد من الاعتداءات على المعابد اليهودية التي يبدو أن الإسرائيليين يرغبون في ازديادها لكي يولولون ويلطمون من "عداء السامية". لكن الواضح هو أن الأوربيين قد سئموا تلك النغمة واعتادوها، ولعل ردهم يكون في انتخاب جان ماري لوبان رئيسا للجمهورية الفرنسية خلال ساعات قليلة. تدعي وسائل الإعلام اليهودية أن جاك شيراك سيفوز بنسبة 80% وأنا أتكهن – والله أعلم – بأن تلك النسبة من صنع وهم وخيال ودعاية الإعلام اليهودي ولا تمثل الواقع. فأوربا تستيقظ وإذا لم تلفظ السياسيين اليهود في هذه الجولة فهناك جولات أخرى قادمة.
نشرت الجارديان تعليقا بقلم مارتن ولاكوت Martin Woollacott في 3/5/2002 تحت عنوان "عيون العرب تستطيع الآن السفر إلى القدس كل يوم". الكاتب ذو أسلوب سلس بديع أرجو ألا تنتقص ترجمتي الكثير من جماله. يقول الكاتب:
(تأتي فيروز إلى الميكروفون كعروس تخطو إلى الهيكل، عيناها مسبلتان وقسمات وجهها ثابتة وشعرها الأحمر يغطيه وشاح من الشاش الذهبي، ثم ينطلق صوتها الجهوري البديع على الحضور يهزهم هزا. تبدأ المطربة اللبنانية الشهيرة بأكثر أغانيها صيتا "القدس". يقال أن المسلمين والمسيحيين حينما كانوا يقتلون بعضهم البعض في الحرب الأهلية اللبنانية كان من الجائز أن يتوقفوا لكي ينصتوا إلى "القدس".
هنا في "دبي "لن يتركوا فيروز تذهب، فسوف يطلبون منها الإعادة تلو الإعادة. وسوف يجذبها إلحاح التصفيق الحاد المرة تلو المرة للعودة إلى المسرح بالجامعة الأمريكية. أحيانا لكي تشدو بأغاني الحب الحزينة التي يعشقونها في الشرق الأوسط، ولكن الأهم من كل ذلك هو أن تعطي لسامعيها ما هم في أشد الحاجة إليه، تلك الأغنيات التي تحتج بشدة على مصير فلسطين والفلسطينيين. إن المشاعر الفياضة التي يحس بها العرب تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ليست غريبة لكن "دبي" مكان يصلح لقياس عمقها الجديد. لقد اعتاد العرب على الفكرة بأن هناك نوع من السلام غير السليم تتم المساومة بشأنه في فلسطين. إنه السلام الذي قد يزدرونه لكن معظمهم كان يقبله كارها وكان على أي حال أساسا تبني عليه القرارات السياسية والاقتصادية. أما الآن فقد حلت الحرب محل السلام وانتقلت صور تلك الحرب إلى كل بيت تقريبا من "المغرب" إلى "مسقط" عبر الإعلام العربي الجديد، وخاصة القنوات التلفازية الفضائية مثل قناة الجزيرة، فحل الغضب العارم محل الحنق الذي كان في الماضي ذا صبغة روتينية إلى حد ما.
إن الفورية المفاجئة للحرب الفلسطينية لها وقع على العرب وغيرهم. قورن ذلك بأثر الشبكات التلفازية على الرأي العام الأمريكي إبان حرب فيتنام. كانت قدرة تلك القنوات على إدخال الحرب إلى البيوت الأمريكية أمر جديد. وصل هذا النوع من التلفاز إلى العرب متأخرا لكنه قد وصل، وربما أن أمريكا وإسرائيل قد فشلتا في استيعاب أنه لا توجد الآن حروب خاصة. ففي نص معدل لكلمات كتبت منذ سنين عدة تغني فيروز "عيوننا تسافر إلى القدس كل يوم" ، بل هي تسافر إلى جنين والخليل وبيت لحم بفضل التلفاز. فما كان مجازا في الماضي أصبح اليوم حقيقة وواقعا حرفيا.
ودبي مكان تستطيع فيه أن تتبين أن المشاعر تجاه الأخوة العرب والشعور بالظلم ليست وحدها سببا لهذا الغضب. تشعر المجتمعات العربية بتهديد مباشر لفشل احتواء الصراع حتى الآن وكبح جماح إسرائيل وفرض العودة إلى طاولة المفاوضات. إن هذا مفهوم بصراحة فجة لو أمكن اعتباره فقط أمرا يشغل الحكومات الموالية لأمريكا وهي تواجه غضبة شعبية مركزة على أمر واحد فيسهل قمعها بالوسائل المعهودة لقمع المعارضة. هذا صحيح لحد ما ، لكن الصحيح أيضا هو أن هناك تهديد – خاصة في المجتمعات الغنية نسبيا مثل دول الخليج – لكل تخطيط للمستقبل والاستثمار في التعليم والبنية التحتية بأنواعها والتنوع والتشعب بعيدا عن النفط، لو أصبح مستقبل فلسطين هو الحرب أو الاحتلال الذي تتخلله نوبات من العنف.)
يمضي المقال في شرح مسهب عن أثر الحرب وعدم الاستقرار على نمو منطقة الخليج التي جهزت أمرها في بذخ للتنمية السريعة فزرعت المال في الرمال، ويقارن الأمر بالكساد الذي أصاب أمريكا بعد 11 سبتمبر ثم يقول:
(إذا كانت تلك هي المشاكل التي تواجه دول الخليج الصغيرة فما بالك بالمشاكل التي تواجه السعودية التي لم يعد باستطاعتها الحفاظ على مستوى معيشة أجيالها الشابة بنفس مستوى معيشة آبائهم؟ وكم تزيد مشاكل مصر التي تواجه المشاكل المستفحلة؟
الكاتب الأمريكي توماس فريدمان (كاتب أمريكي يهودي ذو هوية مشبوهة وأغلب الأمر أنه أحد عملاء الموساد ووكالة المخابرات المركزية) لا يكل عن مناصرة الحداثة بالعالم العربي، وقد أوحي بأن الشبكة الدولية <الإنترنيت> والاقتصاد الجديد تكاد تكون بدائل للولاء القديم والاهتمامات المفرطة أو حلولا لمشاكل قد تبقى جامدة. ويبدو أن فكره هو أنه لو طبقت العولمة تطبيقا صحيحا فإن الإصلاح السياسي يتلوها.
لكن الفكر المضاد هو انه لو صحت السياسة تبعتها الحداثة على أساس سليم. لا شك أن ذلك كان أحد الأفكار الواضحة للمؤتمر الذي انعقد في دبي هذا الأسبوع لمناقشة العلاقات بين العرب والعالم الغربي منذ 11 سبتمبر، وخاصة منذ ازدياد حدة الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولما كان فريدمان نفسه قد أصبح شبيها بلاعب دبلوماسي - بعد أن نقل للعالم اقتراح السلام من ولي العهد الأمير عبد الله – فإن البعض قد اغتبط باقتراحه أن طريقا لحل الأزمة قد يكون الآن في طور التمهيد. لكن عديدا من المندوبين العرب أرادوا استجوابه بشأن كتاباته في الماضي وعندما اتهمه أحدهم بقبول السفر المجاني من السعوديين غادر القاعة وإن كان قد تم إقناعه بالعودة فيما بعد.
كانت تلك الواقعة أحد أعراض العلاقات المتوترة بين الدول العربية والدولة التي قال أحد المتحدثين عنها "نحن نرسل أبناءنا إليها ليتعلموا ونرسل أموالنا لاستثمارها ونأخذ أنفسنا إليها في العطلات." قد يكون توم فريدمان منحازا إلى اليسار في نقاشه بالولايات المتحدة لكن ذلك النقاش في عيون العرب يبدو شديد الاعوجاج نحو لإسرائيل.
مثل جون سنونو John Sununu الجانب الآخر من وجهة النظر الأمريكية وهو العربي الأمريكي الذي عمل رئيسا للأركان في عهد الرئيس بوش الأول في وقت اتخذت فيه حكومة الولايات المتحدة أول إجراء عقابي جاد ضد إسرائيل بوقف ضمانات سلف هامة. كانت رسالته هي ضرورة وقف الدفاع عن الانتحاريين المتفجرين لأن ذلك يضر ضررا بالغا بسير الأمور وأن يتبعوا الأسلوب الذي سبقتهم إليه إسرائيل وتفوقت عليهم فيه بجدارة وهو التأثير على الرأي العام والسياسة الأمريكية.
لم تقتنع الأغلبية بأن الشهداء يعوقون السلام. كان سنونو على الأقل تذكرة بأن تصرف أمريكا بحسم ليس خارجا عن نطاق الإمكان. وطالما كانت عيون العرب تسافر إلى القدس كل يوم فإنهم سينتظرون من أمريكا الحاسمة أن توضح عن نفسها.)
التاريخ في سلسلة مقالات (18)
من أقوال الصحف العالمية
تاريخ المقال: 10/5/2002
(سوف أضيف بقية هذه المقالات تباعا )