قامت الثورة لتجد أمامها مخزونا هائلا من العفن الذي يزداد حدة كلما اتجهت من أسفل إلى أعلى هرم السلطة، في كافة المؤسسات والنشاطات والمجالات. موروث من الفساد زاد عمره عن ستين عاما. لو أراد أحدهم التوبة جاءه الضغط من أعلى ومن أسفل لكي يستمر في فساده وإفساده. حتى المجلس العسكري الذي أمسك بزمام السلطة لابد وأن يكون معظم أفراده من الفاسدين ماليا الذين انتقاهم مبارك واشترى ولاءهم له. هؤلاء العسكريين هم اليوم مشكلة الثورة الرئيسية لأنهم فقدوا الرؤية على الطريق الواضح وتبلد حسهم الوطني.
كان بديهيا أن إعدام مبارك والعادلي - وعدد من الآخرين الأقل مرتبة - أمر لابد من الانتهاء منه بسرعة في الأيام القليلة التالية للمجزرة التي تمت بميدان التحرير. لكن ذلك لم يحدث، ورأينا بدلا من ذلك تضليلا منظما في صورة محاكمات هزيلة في قضايا فرعية أقل أهمية من الجريمة الكبرى التي راح ضحيتها مئات الشهداء وآلاف الجرحى من خيرة شباب مصر الذين يساوي ظفر الواحد منهم الملايين ممن كان على شاكلة مبارك أو العادلي، وبعدها رأينا مؤامرة منظمة تدور فيها عجلة القضاء ببطء شديد وتعدنا بمحاكمة جنائية في أغسطس المقبل. فلماذا حدث ذلك؟
السبب بسيط جدا إذا ما استعرضنا ما تم تحت قيادة المجلس العسكري الذي ينفرد بالسلطة الفرعونية ويصدر البيانات الفارغة على "الفيسبوك" الذي حل محل الجريدة الرسمية، ظنا منه أن تلك هي الحداثة ومواكبة العصر، دون أن يدري أن القيادة الرسمية للجيش بالدول الأخرى لا تلجأ إلى صفحات "التواصل الاجتماعي" لإصدار الأوامر أو البيانات العسكرية. أعود إلى ما أردت قوله من أن المجلس العسكري لم يتحرك خطوة واحدة للأمام إلا فور قيام - أو التهديد بقيام - مليونيات الجمعة. كان التسويف واضحا وإضاعة الوقت جلية، فما هي الأسباب؟
سواء كان هناك ولاء أو وعد بنجاة مبارك من حبل المشنقة - أو رصاص فرقة الإعدام العسكرية - فإن الواضح هو أن المجلس العسكري يماطل ويسوف عامدا متعمدا مع سبق الإصرار والترصد. القاصي والداني يعلم أن مبارك جمع بيده كافة السلطات فكان رئيسا للشرطة وقائدا للجيش، ومن أبسط القواعد القانونية أن تفويض السلطة لآخرين لا يتم معه تفويض المسئولية، فهو مسئول عن قيام العادلي بإعطاء الأوامر لمرؤوسيه، والعادلي مسئول عن إعطاء أوامر غير قانونية، والمرؤوسين مسؤولين عن تنفيذ أوامر غير قانونية. إذا أضفنا لذلك جريمة الخيانة العظمى بمحالفة العدو الصهيوني فإن ذلك يجب (بضم الجيم) الجريمة الأصغر وهي التربح وسرقة المال العام. القضية إذن واضحة وضوح شمس الظهيرة وخيانة المجلس العسكري للأمانة أشد وضوحا.
أما خدعة "الإعلان الدستوري" فكان الهدف منها المماطلة وتأخير وضع دستور للبلاد ينتهي بها إلى سرعة انتخاب مجلس نيابي ورئيس مقلم الأظافر. وضع دستور نهائي محترم أمر سهل. كان ممكنا مع إخلاص النوايا من جانب القيادة العسكرية - بدلا من مهزلة الاستفتاء على الإعلان الدستوري المبهم - أن يتم اختيار لجنة من القانونيين ، يقوم الشعب بانتخاب أفرادها، لكي تضع دستورا نهائيا للبلاد. نماذج الدساتير المصرية جاهزة منذ دستور الخديوي توفيق في 1882 ودستور 1923 الذي تعطل لمدة عامين فقط ثم استمر العمل به حتى هلت علينا الفوضى الدستورية في عام 1952 المشئوم. لا يتطلب الأمر أكثر من العودة لدستور 1923 وعمل رتوش بسيطة تناسب لغة العصرالحاضر، وإضافة النصوص الخاصة بالتحول من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري برئيس جمهورية فخري لا يشبه من قريب أو بعيد أيا من أجدادنا الفراعنة القدامى، أو الفراعنة الجدد الذين أطلوا علينا منذ عام 1952 وانتهوا بذلك اللص الحقير عميل الصهيونية الأمريكية، الذي أعتقد أن الإعدام هو أخف عقوبة يستحقها ويجب أن تصر عليها الثورة كتعويض حقيقي لكل أم ثكلت شابا من خيرة أبناء مصر. أريد القول بأن صياغة دستور جديد أمر لا يتطلب من لجنة فقهاء دستوريين سوى بضعة أيام وليس أسابيعا أو شهورا.
انتهى الأمر بنا حاليا إلى تقسيم مصر إلى دولتين إحداهما يمكن تسميتها مملكة شرم الشيخ. هناك يربض المجرم الأول آمنا مطمئنا مع زوجته وشريكته الأولى في الإجرام بمستشفى يكاد يكون خاصا تتوفر به أجهزة طبية حديثة لا يمكن أن يستفيد منها مئات الآلاف من المرضى المصريين الذين هم أحق بالعلاج من لص عميل لأعداء الوطن. في هذه الدولة - التي سمح المجلس العسكري بقيامها - لا توجد سلطة حقيقية لذلك المجلس، بحيث أن لجنة قانونية لجرد ممتلكات حسين سالم - اللص الهارب إلى أسبانيا عبر إسرائيل - تم منعها من الدخول إلى أحد أملاكه بواسطة "الحرس الخاص" لمحمد حسني مبارك ملك شرم الشيخ.
على المجلس العسكري أن يستيقظ من غفوته وأن يعلم أن شباب مصر المثقف الذكي - الذي فجر هذه الثورة الحقيقية الأولى في تاريخ مصر - غير غافل عن حقيقة ما يدور في كواليس المجلس العسكري وقيادته العاجزة، وقد تبلورت مطالب هذا الشباب اليوم في الآتي:
● الدستور النهائي أولا
● انتخابات مجلسي النواب والشيوخ بسرعة بعد الدستور
● انتخاب رئيس الجمهورية مقلم الأظافر بعد الانتخابات النيابية
● عودة الجيش إلى وظيفته الأساسية لحماية البلاد واعتزاله السياسة وخضوع وزير الحربية لرئيس الحكومة الشرعية الجديدة الذي يقوم بتعيين الوزراء.
من الغباء الواضح أن يستمر المجلس العسكري في التلاعب حتى قيام المظاهرات المليونية التي قد يشارك بها أعداد أكبر من الضباط والقيادات الأصغر بالجيش، فيتحول الأمر إلى انقلاب عسكري شعبي يكون المجلس العسكري نفسه أول ضحاياه. احذروا أيها السادة فلن يكون الأمر قاصرا على حفنة صغيرة من صغار الضباط بخيمة بميدان التحرير. نحن المراقبون السياسيون نجمع المعلومات ونحلل الأنباء والبيانات والدعايات المبثوثة بوسائل الإعلام ثم نخرج بالنتائج: الجمعية الوطنية للتغيير- وهي الأب الشرعي للثورة - قد تململت وبدأت في التحرك مطالبة بالدستور قبل كل شيء. احذروا طوفان عصر المعلومات والشعوب التي يقودها شباب ذكي . طريق الثورة - الذي عرفته الجماهير المليونية وسلكته - اتجاه واحد لا رجعة فيه.
لقد جربت مصر الخضوع لحكم العسكر وفقدت بسببه 60 عاما كارثيا من عمرها الحضاري، ولا يمكن بحال أن تقبل مصر استمرار الحكم العسكري من خلف الكواليس. الشباب ووتيرة العصر أسرع منكم فلا تنتظروا. نحن ندعو الله لمصر ولكم، فأنتم أيضا أبناؤها الذين يريدون الخير لها، واعلموا أن عملكم وتخصصكم الذي تجيدونه هو الدفاع عنها وليس الحكم أو القانون أو الاقتصاد أو السياسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق