لاشك أن أصل المشكلة المصرية يعود بصفة أساسية إلى طبيعة الحكم الدكتاتوري العسكري الفردي منذ عام 1952. الحكم الفردي لا ينهض بالشعوب. تلك حقيقة أساسية يمكن التدليل على صحتها من واقع تاريخ الأمم على مر العصور ولا جدوى من الخوض في تفاصيل ذلك في عجالة سريعة. الدول الدكتاتورية الناجحة مثل الصين أو روسيا تحكمها دائما جماعات حزبية تستطيع تنحية الرئيس عند الضرورة. الصين تمتاز عن غيرها في مدى القسوة والحزم مع لصوص المال العام، حيث يؤدي ثبوت التهمة إلى الإعدام. لهذا السبب سادت الصين العالم، ولهذا السبب انحدرت مصر إلى أسفل سافلين حيث أصبح الجميع تقريبا - من رئيس الجمهورية حتى أصغر موظف - لصوصا للمال العام والخاص.
من نافلة القول أن نحاول عمل مقارنات بين الأفراد الذين ترأسوا الحكم الدكتاتوري، كأن نقول أن عبد الناصر كان شريفا وكان وطنيا وكانت له رؤية لمستقبل المنطقة. هذا عبث فكل تلك الصفات الطيبة لا تنفي أنه كان دكتاتورا يحدد مسار كل شيء بمفرده، وأنه مثل كل فرد قد يلم ببعض الأمور ولكنه لا يلم بكل شيء، فرغم كل نواياه الحسنة ووطنيته إلا أنه استن قوانين ومبادئ اقتصادية أدت إلى دمار الاقتصاد المصري، وأدت الدولة البوليسية التي أرسى قواعدها إلى الدمار الاجتماعي الذي تعيشه مصر اليوم. فمن العبث أن نترحم على عبد الناصر كفرد وأن نتغاضي عن طبيعة النظم الدكتاتورية الفردية التي تؤدي بطبيعتها إلى التهلكة.
أدي النظام الدكتاتوري الفردي إلى تصنيع أو تفريخ ذلك المسخ المدعو محمد حسني مبارك، ولا داعي لأن نخوض في تفاصيل صفاته ومواصفاته التي يعرفها الجميع، ولكن من الهام أن نتفحص التركة المثقلة التي خلفها. كان هذا التعس قد وصل إلى مرحلة التضحية بمصر كلها في سبيل عائلته التي اعتقد أنها الوريث الشرعي لتلك الضيعة المسماة مصر، والمالك الأبدي لهؤلاء العبيد المسمون المصريين. من العجيب أن أسوأ دول العالم على الإطلاق - واسمها المملكة العربية السعودية – لم يصل استخفاف حكامها بشعبها ما وصلت إليه مصر بدخول القرن الحادي والعشرين.
ما هو شكل الدولة التي خلفها مبارك؟ هي دولة بدون خطة ناجحة للحاضر أو المستقبل، تستهلك ولا تنتج. المواطن فيها بلا كرامة أو حقوق، وليس لديه حافز أو رؤية واضحة لحياته أو مستقبل أبنائه. النجاح المادي فيها مقصور على اللصوص، أما مكارم الأخلاق والأمانة وعفة النفس فهي للفاشلين الذين يعجزون عن توفير الحياة الكريمة لأنفسهم أو لأبنائهم. مؤسسات الدولة كلها مسخرة لخدمة مبارك وعصابته وكبار اللصوص. قوات الشرطة والجيش مخصصة لحمايتهم بكل آليات التكنولوجيا الحديثة، ولا مانع من اللجوء للأعداء والتعاون معهم في مجال الاستخبارات وتعذيب الأبرياء. فقد تم بوزارة الداخلية إنشاء فرقة "مقاومة الإرهاب العالمي" بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وهي ذات الفرقة التي يستخدمها محمد حسين طنطاوي اليوم لاصطياد شباب ثورة التحرير من فوق أسطح المباني. تم فتح فرع بمصر لمعسكر جوانتانامو الشهير يقوم باستقبال من تود المخابرات الأمريكية تعذيبه. هناك الكثير والكثير من آفات تلك التركة المثقلة لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها.
هنا يتبادر السؤال المنطقي: لماذا لا تتحسن الأمور بعد الثورة؟ الإجابة يمكن أن تستخلص بالمنطق والشواهد. مصر يحكمها الآن ولحوالي عام كامل ما يسمى "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" الذي يتكون بصفة أساسية من كبار جنرالات مبارك، الذين انتقاهم مبارك ونظامه بناء على الأسس التي ترسخ ذلك النظام. فهم جميعا - على حد علمي واستنتاجي المتواضع - لصوص مثل قائدهم. كان ذلك سهلا لأن للجيش نشاطه الاقتصادي الذي لا يخضع للجهاز المركزي للمحاسبات ويكسب الكثير من "المال السايب" الذي لا يخضع للضرائب ويعتمد على عمالة السخرة المجانية للمجندين. وبالتالي فإن ذلك النشاط الاقتصادي يربح مهما كانت درجة فساد ولصوصية إدارته. لكن ذلك الربح يدخل معظمه جيوب الجنرالات وأتباعهم، ويسمح ببعض الفتات لصغار العسكريين لضمان ولائهم.
المتتبع لحجم ثروة كل أفراد ذلك "المجلس الأعلى" يستطيع أن يتبين الأسباب التي من أجلها استمر نظام مبارك دون مساس بهيكله الأساسي، ويستطيع المراقب الذكي تحليل الوسائل التي استخدمها ذلك المجلس لخداع الشعب المسكين وشباب الثورة النقي الذي يتساقط شهداؤه مع كل نوبة اعتراض. ويقال أن قادة العسكر هؤلاء كانوا قد ضاقوا ذرعا بمبارك ورغبته في توريث ابنه المدني الذي قد يعمل على تحجيم نفوذهم. وجاءت ثورة الشباب في 25 يناير 2011 لكي يجني العسكر ثمارها على طبق من الفضة كما يقول المثل الإنجليزي. فقد استطاعوا وضع مبارك والعادلي وكبار مفسدي النظام السابق خلف قضبان وهمية لامتصاص غضب الناس. ورسموا لأنفسهم صورة وطنية يتكشف زيفها يوما بعد يوم.
قام حكام السعودية بضخ كميات هائلة من الأموال لخلق ذلك المسخ الديني الكريه الذي لم تعرفه مصر من قبل ويطلقون عليه اسم "التيار السلفي" الذي نجح في اجتذاب العامة، بل والمعتوهين من الخاصة أحيانا. ورغم طبيعة المصريين المعتدلة إلا أن ذلك التيار نجح في أن يكون له موطئ قدم في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية وانتشار الأمية وانهيار المنظومة التعليمية المصرية. ولن ينحسر ذلك التيار الوهابي العفن إلا بتحسن الأوضاع الاقتصادية وإصلاح التعليم.
دخل الإخوان المسلمون حلبة الصراع بانتهازيتهم المعهودة وعقدوا صفقة مع الأمريكان سيصلون بموجبها إلى الحكم، وساعدهم على ذلك جهل الكثيرين بتاريخ الإخوان، الذين لا يناوئون الحكام ويصبرون على الظلم فيكسبون تعاطف الناس الذي لا يستحقونه. ولا أستطيع أن أدعي أنني أعرف الكثير عن أهداف الإخوان السياسية - بل والدينية - بصفة عامة، وإن كنت أشك كثيرا في صلاحيتهم للحكم الذي يتطلب الكثير من المعرفة والمرونة وعدم إقحام الدين في السياسة. وعلى كل الأحوال فإن وصولهم للحكم لفترة واحدة كفيل بأن يكشف للناس عوراتهم وعقم تفكيرهم وعدم صلاحيتهم لحكم الدولة الحديثة. لكن ذلك قد يكلف مصر خمسة أو ستة سنوات أخرى من عمرها الحضاري، وهو ثمن زهيد إذا ما قورن بحكم العسكر الذي دمر مصر تماما على مدى 60 عاما وما زال يطلب المزيد من الوقت على يد محمد حسين طنطاوي وعصابته.